بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَمَّا بَعدُ:
المقدمة
قَالَ اللهُ تَعَالَى
﴿يَرفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ﴾
سورة المجادلة: 11
يَغفُلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنِ العِلمِ وَعَن فَضَائِلِهِ، فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنهُم يَنشَغِلُ بِالدُّنيَا وَشَهَوَاتِهَا وَأَموَالِهَا، يَجمَعُ وَيَجمَعُ وَيَجمَعُ، وَيَترُكُ فَضِيلَةً لَو عَلِمَ النَّاسُ لَذَّتَهَا وَثَوَابَهَا لَاقتَتَلُوا عَلَيهَا وَلَنَافَسُوا طُلَّابَ العِلمِ لِأَجلِهَا، لَكِنَّ أَكثَرَهُمْ لَم يَذُوقُوا طَعمَ العِلمِ وَلَم يَستَشعِرُوا حَلَاوَتَهُ وَلَم يَعرِفُوا فَضلَهُ.
وَفِي هَذَا المَقَالِ سَنَشرَحُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى حَدِيثًا نَبَوِيًّا يُبَيِّنُ المُشكِلَةَ الَّتِي يَقَعُ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِ تَركِ العِلمِ وَالتَّعَلُّمِ وَيُبَيِّنُ العِلَاجَ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيهِ عِلمُ الدِّينِ مِنَ الفَضِيلَةِ وَالفَوَائِدِ.
حديث المسيء صلاته
عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَخَلَ المَسجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَسَلَّمَ على النَّبِيِّ ﷺ فَرَدَّ عَلَيهِ السَّلَامَ وَقالَ: «ارجِع فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَم تُصَلِّ»، فَرَجَعَ يُصَلِّي كَما صَلَّى، ثُمَّ جاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: «ارجِع فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَم تُصَلِّ» ثَلَاثًا، فقالَ: والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أُحسِنُ غَيرَهُ، فَعَلِّمنِي، فَقَالَ ﷺ: «إِذا قُمتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّر، ثُمَّ اقرَأ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرآنِ، ثُمَّ اركَع حَتَّى تَطمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارفَع حَتَّى تَعتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسجُد حَتَّى تَطمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارفَع حَتَّى تَطمَئِنَّ جَالِسًا، وَافعَل فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا»، رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
تَكمُنُ أَهَمِّيَّةُ هَذَا الحَدِيثِ فِي أَنَّهُ يَستَعرِضُ مُشكِلَةً كَبِيرَةً يَقَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كُلَّ يَومٍ تَقرِيبًا، وَهِيَ أَنَّهُ (يُسِيءُ صَلَاتَهُ)، فَكَم مِنَ النَّاسِ اليَومَ لَا يُصَلِّي، وَإِذَا صَلَّى فَإِنَّهُ لَا يُحسِنُ الصَّلَاةَ، فَجَاءَ هَذَا الحَدِيثُ النَّبَوِيُّ مُبَيِّنًا لِهَذِهِ المُشكِلَةِ.
المشكلة التي نبه إليها رسول الله ﷺ
عَدَمُ تَعَلُّمِ الشَّخصِ أُمُورَ دِينِهِ يُوصِلُهُ إِلَى أَن يُفسِدَ عِبَادَاتِهِ، وَهَذَا وَاضِحٌ مِن أَمرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِهَذَا الرَّجُلِ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ قَد فَعَلَ صُورَةَ الصَّلَاةِ مِن قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَمَامَ النَّبِيِّ ﷺ، لَكِن مَعَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ: «ارجِع فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَم تُصَلِّ»، أَيِ ارجِع وَأَعِد صَلَاتَكَ فَإِنَّ صَلَاتَكَ لَم تَصِحَّ فَكَأَنَّكَ لَم تُصَلِّ، فَعَدَمُ تَعَلُّمِ الرَّجُلِ المَذكُورِ فِي الحَدِيثِ أَدَّى إِلَى أَنَّهُ عَمِلَ شَيئًا أَبطَلَ صَلَاتَهُ وَهُوَ لَا يَدرِي، قَد يَكُونُ تَرَكَ شَيئًا مِن أَركَانِ أَو شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَقَد يَكُونُ عَمِلَ شَيئًا مِن مُبطِلَاتِ الصَّلَاةِ أَدَّى إِلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ النَّتِيجَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَكَمَ بِأَنَّ صَلَاتَهُ لَم تَصِحَّ وَأَمَرَهُ بِإِعَادَتِهَا.
وَهُنَا يَغفُلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَيثُ تَجِدُ الوَاحِدَ مِنهُمُ انصَرَفَ عَن عِلمِ الدِّينِ إِلَى أُمُورٍ أُخرَى غَيرَ مُنتَبِهٍ لِأَهَمِّيَّةِ التَّعَلُّمِ، فَتَرَاهُ إِمَّا أَنَّهُ انصَرَفَ إِلَى الدُّنيَا وَمَشَاغِلِهَا أَو أَنَّهُ انصَرَفَ إِلَى العِبَادَةِ مِن غَيرِ تَعَلُّمٍ، فَتَرَاهُ يَعتَكِفُ اللَّيَالِيَ وَالأَيَّامَ وَيُوَاظِبُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي المَسجِدِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالذِّكرِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي هِيَ لَا شَكَّ أَنَّهَا نَافِعَةٌ وَفِيهَا خَيرٌ عَظِيمٌ، لَكِنَّهُ أَهمَلَ الشَّيءَ الَّذِي يُوصِلُهُ إِلَى صِحَّةِ وَقَبُولِ هَذِهِ العِبَادَاتِ الَّتِي يَتعَبُ فِيهَا، وَهُوَ العِلمُ، فَإِذَا كَانَ صَحَابِيٌّ عِندَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي حَيَاتِهِ وَحَضرَتِهِ قَد وَقَعَ فِي هَذَا، فَحَرِيٌّ بِنَا نَحنُ أَن نَنتَبِهَ مِن مِثلِ هَذِهِ الأَخطَاءِ فَلَسنَا بِبَعِيدِينَ عَنهَا، وَقَد قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَضلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِي عَلَى أَدنَاكُم رَجُلًا»، رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ ﷺ: «رُبَّ قَائِمٍ لَيسَ لَهُ مِن قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَالتَّعَبُ، وَرُبَّ صَائِمٍ لَيسَ لَهُ مِن صِيَامِهِ إِلَّا الجُوعُ وَالعَطَشُ»، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، فَهَل صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ كَانَ أَغلَبُهُم يُسِيئُونَ عِبَادَاتِهِم، حَاشَاهُم رَضِيَ اللهُ عَنهُم، لَكِن هَذَا تَنبِيهٌ مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ مِن خَطَرِ هَذِهِ المُشكِلَةِ، يُنَبِّهُ أُمَّتَهُ ﷺ أَن لَا تَكُونُوا مِمَّن يُسِيئُونَ صَلَاتَهُم أَو عِبَادَاتِهِم فَيَذهَبَ عَلَيكُمُ الأَجرُ.
علاج المشكلة بتوجيهات نبوية
لَم يَترُك رَسُولُ اللهِ ﷺ هَذَا الرَّجُلَ وَالمُسلِمِينَ دُونَ بَيَانِ الحَلِّ وَالعِلَاجِ لِهَذِهِ المُشكِلَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَرَّرَ ﷺ عَلَيهِ الأَمرَ ثَلَاثًا كُلَّ مَرَّةٍ يَقُولُ لَهُ: «ارجِع فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَم تُصَلِّ»، أَتبَعَ ذَلِكَ بِأَن عَلَّمَهُ مَا يَنبَغِي لَهُ أَن يَعمَلَ حَتَّى تَصِحَّ صَلَاتُهُ، فَكَانَت إِشَارَةً نَبَوِيَّةً إِلَى أَنَّ عِلَاجَ مِثلِ هَذِهِ المَشَاكِلِ هُوَ العِلمُ، عِلَاجُ الجَهلِ المُؤَدِّي إِلَى الِانحِرَافِ عَنِ الطَّرِيقِ هُوَ العِلمُ الَّذِي يُنِيرُهَا لَنَا، فَبِالعِلمِ يَعرِفُ الشَّخصُ الحَلَالَ وَالحَرَامَ فَيَجتَنِبُ الوُقُوعَ فِي المَعَاصِي، بِالعِلمِ يَعرِفُ كَيفَ تَصِحُّ العِبَادَاتِ، بِالعِلمِ يَعرِفُ كَيفَ يَبِيعُ وَيَشتَرِي، بِالعِلمِ يَعرِفُ كَيفَ يَتَعَامَلُ مَعَ زَوجَتِهِ، بِالعِلمِ يَعرِفُ كَيفَ يَتَعَامَلُ مَعَ جَارِهِ وَأَصدِقَائِهِ، فَالعِلمُ هُوَ مَا تَقُومُ بِهِ المُجتَمَعَاتُ وَالأَوطَانُ وَتَزدَهِرُ، بِالعِلمِ يُثمِرُ المُجتَمَعُ ثِمَارًا طَيِّبَةً تُؤَدِّي إِلَى رِفعَتِهِ وَتَقَدُّمِهِ، بِالعِلمِ يَكمُلُ إِيمَانُ المُسلِمِ فَيُوصِلُهُ إِلَى الجَنَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَد قَالَ: «هَل مُشَمِّرٌ لِلجَّنَّةِ» أَي هَل هُنَاكَ مَن وَطَّنَ نَفسَهُ عَلَى العَمَلِ لِدُخُولِ الجَنَّةِ وَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ وَالإِنسَانُ إِنَّمَا يُشَمِّرُ ثَوبَهُ وَيَشُدُّ إِزَارَهُ عِندَ إِرَادَةِ العَمَلِ فَهَذَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى الأَعمَالِ الَّتِي تُوصِلُ إِلَى الجَنَّةِ، ثُمَّ قَالَ الصَّحَابَةُ: نَحنُ المُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ قَد تَعَلَّمُوا عِلمَ الدِّينِ وَتَعَلَّمُوا كَيفِيَّةَ أَدَاءِ العِبَادَاتِ حَتَّى تَصِحَّ مِنهُم لِأَنَّ الكُلَّ مَبنِيٌّ عَلَى بَعضِهِ البَعضِ فَبِتَعَلُّمِهم وَفِعلِهمُ العِبَادَاتِ عَلَى وَجهِهَا صَدَقُوا جَوَابَهُم لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.
خاتمة
مِنَ المَعلُومِ أَنَّهُ حَتَّى يَصِلَ الإِنسَانُ إِلَى الجَنَّةِ لَا بُدَّ مِن أَن يَعمَلَ لَهَا، وَالعَمَلُ هُنَا يَكُونُ بِالإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ ﷺ وَأَدَاءِ العِبَادَاتِ وَطَاعَةِ اللهِ فَقَد جَاءَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَشبَعُ المُؤمِنُ مِن خَيرٍ يَسمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنتَهَاهُ الجَنَّةَ»، رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ، فَلَا يَمَلُّ مِنَ اكتِسَابِ العِلمِ وَطَلَبِهِ، لَكِن وَفِي ظِلِّ المَفَاسِدِ المُنتَشِرَةِ فِي أَيَّامِنَا وَلَا سِيَّمَا عَقَائِدُ بَعضِ الفِرَقِ المُنحَرِفَةِ عَن طَرِيقِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَالَّتِي يَصِلُ بَعضُهَا إِلَى الكُفرِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى، كَيفَ سَيَعرِفُ الإِنسَانُ مَا هِيَ العَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ وَيُحَصِّنُ نَفسَهُ مِنَ العَقَائِدِ الأُخرَى المُخَالِفَةِ إِن لَم يَتَعَلَّم، إِن لَم يَتَعَلَّم كَيفَ سَيَعرِفُ مَا هُوَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأُمُورِ المُستَحدَثَةِ فِي زَمَانِنَا، كَيفَ سَيُتقِنُ صَلَاتَهُ وَيَطمَئِنُّ إِلَى أَنَّهَا قُبِلَت، كَيفَ سَيَعرِفُ أَنَّهُ لَيسَ مِنَ الصَّائِمِينَ الَّذِينَ لَم يَنَلهُم إِلَّا الجُوعُ وَالعَطَشُ أَوِ القَائِمِينَ الَّذِينَ لَم يَنَلهُم إِلَّا التَّعَبُ وَالسَّهَرُ، كُلُّ هَذَا يَأتِي بِالعِلمِ، إِذَا تَعَلَّمَ الشَّخصُ أُمُورَ دِينِهِ يَعرِفُ عَقِيدَتَهُ وَيَرفُضُ غَيرَهَا، يَعرِفُ كَيفَ يُؤَدِّي الصَّلَاةَ عَلَى أَكمَلِ وَجهٍ وَغَيرَهَا مِنَ الوَاجِبَاتِ، وَيَعرِفُ مَا هُوَ الحَرَامُ فَيَجتَنِبُهُ، فَإِذَا اعتَقَدَ العَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ أَدَّى الوَاجِبَاتِ وَاجتَنَبَ المُحَرَّمَاتِ يَصِلُ إِلَى الجَنَّةِ إِن شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ، وَبِدَايَتُهُ هُوَ التَّعَلُّمُ، لِأَنَّكَ بِدُونِ العِلمِ لَن تَعرِفَ أَيَّ شَيءٍ مِن هَذِهِ الأُمُورِ.
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
المصادر
هَذِهِ المَسَائِلُ مَجمُوعَةٌ وَمُلَخَّصَةٌ مِنَ:
- القُرءَانِ الكَرِيمِ.
- السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.
- صَحِيحِ البُخَارِيِّ.
- سُنَنِ التِّرمِذِيِّ.
- السُّنَنِ الكُبرَى لِلنَّسَائِيِّ.
- فَتحِ البَارِي بِشَرحِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ لِابنِ حَجَرٍ العَسقَلَانِيِّ.