بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعدُ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾
سُورَةُ النَّجْم (32)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾
سُورَةُ النِّسَاء (31)
وَالْمُرَادُ هُنَا بِاللَّمَمِ وَبِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرُ.
قال رسول الله ﷺ
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ
رواه مسلم
أَيْ مَا لَمْ تُرْتَكَبُ الْكَبَائِرُ.
معنى الكبيرة
عُرِّفَتِ الكَبِيرَةُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: (كُلُّ ذَنْبٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَوْ عَظِيمٌ أَوْ أُخْبِرَ فِيهِ بِشِدَّةِ الْعِقَابِ أَوْ عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَشُدِّدَ النَّكِيرُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ).
عدد المعاصي الكبائر
لَمْ يَثْبُتْ بِحَدِيثٍ حَصْرُ الْكَبَائِرِ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَمِ الْكَبَائِرُ أَهِيَ سَبْعٌ؟، فَقَالَ: (هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ)، وَوَرَدَ مِمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْحَصْرَ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّمَا هِيَ تِسْعٌ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ نَسَمَةٍ (يَعْنِي بِغَيْرِ حَقٍّ) وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالَّذِي يَسْتَسْحِرُ وَالإِلْحَادُ فِي الْمَسْجِدِ (يَعْنِي المَسجِدَ الْحَرَامَ) وَبُكَاءُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعُقُوقِ).
وَأَمَّا عَدُّ نِسْيَانِ الْقُرْءَانِ مِنَ الْكَبَائِرِ فَلا يَصِحُّ، لِأَنَّ حَدِيثَ: “نَظَرْتُ فِي الذُّنُوبِ فَلَمْ أَرَ أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْءَانِ أُوتِيَهَا رَجُلٌ فَنَسِيَهَا“،ضَعِيفٌ وَهُوَ مُشْكِلٌ مَعْنًى.
وَقَدْ تَكَلَّفَ البَعضُ تَعْدِيدَ الْكَبَائِرِ إِلَى أَنْ أَوْصَلَهَا إِلَى أَرْبَعِمِائَةٍ وَزِيَادَةٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ فِي خِلالِ مَا عَدَّهُ مَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً.
وَقَدْ أَوْصَلَ عَدَدَهَا تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ إِلَى خَمْسَةٍ وَثَلاثِينَ مِنْ غَيْرِ ادِّعَاءِ حَصْرٍ فِي ذَلِكَ.
تعداد الكبائر على قول بعض العلماء
نَظَمَ السُّيُوطِيُّ فِي ثَمَانِيَةِ أَبْيَاتٍ مِنَ الرجْزِ الكَبَائِرَ الَّتِي عَدَّهَا التَّاجُ السُّبكِيُّ، فَقَالَ:
كَالْقَتْلِ وَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ
وَمُطْلَقِ الْمُسْكِرِ ثُمَّ السِّحْرِ
وَالْقَذْفِ وَاللِّوَاطِ ثُمَّ الْفِطْرِ
وَيَأْسِ رَحْمَةٍ وَأَمْنِ الْمَكْرِ
وَالْغَصْبِ وَالسِّرْقَةِ وَالشَّهَادَةِ
بِالزُّورِ وَالرِّشْوَةِ وَالْقِيَادَةِ
مَنْعِ زَكَاةٍ وَدِيَاثَةٍ فِرَارْ
خِيَانَةٍ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ظِهَارْ
نَمِيمَةٍ كَتْمِ شَهَادَةٍ يَمِينْ
فَاجِرَةٍ عَلَى نَبِيِّنَا يَمِينْ
وَسَبِّ صَحْبِهِ وَضَرْبِ الْمُسْلِمِ
سِعَايَةٍ عَقٍّ وَقَطْعِ الرَّحِمِ
حَرَابَةٍ تَقْديِمِهِ الصَّلاةَ أَوْ
تَأْخِيرِهَا وَمَالِ أَيْتَامٍ رَأَوْا
وَأَكْلِ خِنْزِيرٍ وَمَيْتٍ وَالرِّبَا
وَالْغَلِّ أَوْ صَغِيرَةٍ قَدْ وَاظَبَا
وَمِنَ الأَحَادِيثِ الْقَوِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ: “ثَلاثَةٌ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ (أَيْ لَا يَدْخُلُونَهَا مَعَ الأَوَائِلِ) الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَالدَّيُّوثُ وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ“، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَيَحْسُنُ عَدُّ الْجِمَاعِ لِلْحَائِضِ فِي الْكَبَائِرِ.
وَالمَعرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدُّ اليَأسِ مِنْ رَحمَةِ اللَّهِ وَالأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي دُونَ الْكُفْرِ.
الخاتمة
عَامَّةُ العُقَلَاءِ يُطبِقُونَ عَلَى أَنَّ الإِنسَانَ لَو قُدِّمَ إِلَيهِ شَرَابٌ فِي غَايَةِ الحَلَاوَةِ وَاللَّذَاذَةِ وَلَا يُوجَدُ شَرَابٌ أَحلَى مِنهُ إِلَّا أَنَّ هَذَا الشَّرَابَ فِيهِ سُمٌّ قَاتِلٌ فَتَّاكٌ لَا يَلتَفِتُ إِلَى حَلَاوَةِ هَذَا الشَّرَابِ وَلَا يَلتَذُّ بِلَذَّتِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ السُّمِّ القَاتِلِ الفَتَّاكِ، وَلَذَّةُ المَعَاصِي أَعَاذَنَا اللهُ مِنهَا تَنطَوِي عَلَى سَخَطِ رَبِّ العَالَمِينَ وَغَضَبِهِ لِأَنَّ الإِنسَانَ لَا يَدرِي إِذَا سَخِطَ عَلَيهِ رَبُّهُ هَل يُهلِكُهُ فِي وَقتِهِ ثُمَّ يَجعَلُهُ فِي عَذَابٍ.
وَلَو رَاجَعَ صَاحِبُ المَعصِيَةِ نَفسَهُ مُرَاجَعَةً صَحِيحَةً وَلَم يُحَابِهَا فِي مَعصِيَةِ اللهِ لَعَلِمَ أَنَّ لَذَّةَ المَعَاصِي كَلَذَّةِ الشَّرَابِ الحُلوِ الَّذِي فِيهِ السُّمُّ القَاتِلُ، وَالشَّرَابُ الَّذِي فِيهِ السُّمُّ القَاتِلُ لَا يَستَلِذُّهُ عَاقِلٌ لِمَا يَتبَعُ لَذَّتَهُ مِن عَظِيمِ الضَّرَرِ، وَلَذَّةُ المَعَاصِي فِيهَا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ السُّمِّ القَاتِلِ، وَهُوَ مَا يَتبَعُ المَعصِيَةَ مِن سَخَطِ اللهِ عَلَى العَاصِي وَتَعذِيبِهِ لَهُ أَشَدَّ العَذَابِ، وَعِقَابُهُ عَلَى المَعَاصِي قَد يَأتِيهِ فِي الدُّنيَا فَيُهلِكُهُ وَيُنَغِّصُ عَلَيهِ لَذَّةَ الحَيَاةِ.
فَيَا عَزِيزَ النَّفسِ بِطَاعَةِ اللهِ، لَا تَبِع عِزَّهَا بِذُلِّ المَعَاصِي.
اللهم يَا رَحمَنُ يَا رَحِيمُ وَفِّقنَا لِلتَّوبَةِ النَّصُوحِ مِنَ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ وَتَقَبَّلهَا مِنَّا وَثَبِّتنَا عَلَيهَا.
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
المصادر
هَذِهِ المَسَائِلُ مَجمُوعَةٌ وَمُلَخَّصَةٌ مِن:
- القُرْآنِ الْكَرِيْمِ
- صَحِيْحِ الْبُخَارِيِّ للْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ
- صَحِيْحِ مُسْلِمٍ لِلْإِمَامِ مُسْلِمٍ
- الزَّوَاجِرِ عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ لابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ
- جَمْعِ الْجَوَامِعِ لِتَاجِ الدِّيْنِ السُّبْكِيِّ
- السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ