خطبة الجمعة الإسراء والمعراج

خطبة الجمعة الإسراء والمعراج

الخطبة الاولى

  الحمد لله فالقِ الحبِّ والنوى وخالقِ العبدِ وما نوى المُطَّلِعِ على باطنِ الضميرِ وما حوى بمشيئتِه رشَدَ من رَشدَ وغَوى من غَوى وبإرادَتِهِ فَسَد ما فَسَد واستَوى ما استَوى صرَفَ من شاءَ إلى الهدى ومن شاءَ إلى الهَوَى أحمدُهُ على صرفِ الهَمِّ والجَوَى حمْدَ من أنابَ وارْعوَى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدَنا وحبيبَنا محمدًا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وسلم، عُرج به ثم عادَ وفِراشُه ما انطوَى، اللهم صلِّ وأنعمْ وأكرمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ وعلى ءالِه وصحبِه عددَ ما عَطِشَ إنسانٌ وارتَوَى. عبادَ اللهِ أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ العظيم، اتقوا اللهَ تعالى في السرِّ والعلنِ، اتقُوا اللهَ تعالَى القائلَ في كتابهِ العظيمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. وكن على ذُكْرٍ أخي المسلم لقولِ الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (العلق:14).

  أخوة الإيمان والإسلام: في السنةِ العاشرةِ من البعثةِ؛ حيث كان عمرُه صلى الله عليه وسلم خمسين سنةً، وقبلَ الهجرةِ بثلاثِ سنين، أي قبلَ ألفٍ وأربعِمائةٍ وستٍّ وأربعين سنةً تقريبا، في ليلةِ السابعِ والعشرين من شهرِ رَجب، أكْرَمَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بمعجزةٍ هي مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي زَادَ اللهُ تَعَالَى بِهَا نَبِيَّهُ تَشْرِيفًا؛ وهي معجزةُ الإسراءِ والمعراج، الثابتةُ في كتابِ اللهِ تعالى، فلا يُنكرُها بعدَ سماعِه بها إلا جاحدٌ به. يقولُ اللهُ تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (سورة الإسراء: 1). افتُتِحَتِ الآيةُ بتسبيحِ اللهِ تعالَى، والتسبيحُ فِي اللغةِ معناهُ التباعدُ، فسُبحانَ اللهِ معناهُ اللهُ مُنزّهٌ بعيدٌ عنْ كلِ مَا لَا يليقُ بهِ سبحانَه، ففِي الآيةِ تنزيهٌ للهِ تعالَى عنْ كلِّ صفاتِ المخلوقينَ، واسمعْ معي أخي المسلم وانتبهْ جيّدًا لِمَا سأقولُ: ابتداءُ الآيةِ بقولِه تعالى: {سُبْحَانَ} فيه إشارةٌ وتنبيهٌ لِكُلِ مَنْ أرادَ أنْ يقرَأَ ويبحثَ فِي معجزةِ الإسراءِ والمعراجِ وتحذيرٌ لهُ مِنَ الوقوعِ فِي تشبيهِ اللهِ تعالَى وَوَصْفِهِ بالجسمِ والمكانِ، فَلْيُعْلَمْ هَذا فإِنَّهُ مُهمٌ وَنفِيسٌ.

  عِبَادَ الله: لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ فِي بَيْتِ بِنْتِ عَمِّهِ أُمِّ هَانِئٍ أُخْتِ سَيِّدِنَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَائِمًا بَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَابْنِ عَمِّهِ جَعْفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ، حَيْثُ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَشَقَّ سَقْفَ الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ حَجَرٌ أَوْ تُرَابٌ فَأَيْقَظَهُ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَأَرْكَبَهُ عَلَى الْبُرَاقِ خَلْفَهُ، وَالْبُرَاقُ دَابَّةٌ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَهُ اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِبَاءً وَتَمَنُّعًا إِنَّمَا الْبُرَاقَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ سَيَرْكَبَهُ أَصَابَتْهُ هَزَّةٌ وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ أَدَارَهُ بِأُذُنِهِ وَقَالَ اثْبُتْ فَلَمْ يَرْكَبْكَ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَرَكِبَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَانْطَلَقَ بِهِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ أَيْ حَيْثُ يَصِلُ نَظَرُهُ يَضَعُ رِجْلَهُ، فكُلُّ خَطْوَةٍ مِنْ خَطَوَاتِهِ تَسَعُ إِلَى مَدِّ الْبَصَر. وَقَدْ مَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي إِسْرَائِهِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ هَاجَرَ إِلَيْهَا بَعْدُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي طُورِ سَيْنَاءَ حَيْثُ كَانَ مُوسَى لَمَّا سَمِعَ كَلاَمَ اللهِ الذي لا يُشبهُ كلامَ البشرِ، وَكَذَلِكَ فِي مَدْيَنَ بَلَدِ نَبِيِّ اللهِ شُعَيْبٍ وَفِي بَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ فِي إِسْرَائِهِ عَجَائِبَ كَثِيرَةً مِنْهَا أَنَّهُ رَأَى الدُّنْيَا بِصُورَةِ عَجُوزٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فَاتَ مِنْ عُمُرِ الدُّنْيَا أَكْثَرُ مِمَّا بَقِيَ فَالآخِرَةُ قَرِيبَةٌ فَمَطْلُوبٌ أَنْ يَسْتَعِدَّ الإِنْسَانُ لَهَا. كَذَلِكَ رَأَى عليه الصلاةُ والسلامُ إِبْلِيسَ مُتَنَحِيًّا عَنِ الطَّرِيقِ، وَرَأَى الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمَيْنِ وَرَأَى خُطَبَاءَ الْفِتْنَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ لِلضَّلاَلِ وَالْفَسَادِ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ أَيْ بِمِقَصَّاتٍ مِنْ نَارٍ. وَرَأَى قَوْمًا ترضَخُ رُؤُوسُهُمْ أَيْ تُكْسَرُ بِالْحِجَارَةِ ثُمَّ تَعُودُ كَمَا كَانَتْ وَهُمُ الَّذِينَ تَتَثَاقَلُ رُؤُوسُهُمْ عَنْ تَأْدِيَةِ الصَّلاَةِ. وَرَأَى أُنَاسًا يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ بِأَظْفَارٍ نُحَاسِيَّةٍ وَهُمُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ النَّاسَ، وغيرَ ذلك من الأمورِ العِظَام.

وَشَمَّ رَائِحَةً طَيِّبَةً مِنْ قَبْرِ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَكَانَتْ مُؤْمِنَةً صَالِحَةً وَجَاءَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا بَيْنَمَا كَانَتْ تَمْشُطُ رَأْسَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ سَقَطَ الْمِشْطُ مِنْ يَدِهَا فَتَنَاوَلَتْهُ وَهِيَ تَقُولُ بِسْمِ اللهِ، فَسَأَلَتْهَا بِنْتُ فِرْعَوْنَ: أَوَ لَكِ رَبٌّ إِلَهٌ غَيْرُ أَبِي، لأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقُولُ لِلنَّاسِ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى، وَكَانَ يَقُولُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، فَقَالَتِ الْمَاشِطَةُ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ هُوَ اللهُ، فَقَالَتْ: أَأُخْبِرُ أَبِي بِذَلِكَ، قَالَتْ أَخْبِرِيهِ، فَأَخْبَرَتْهُ فَطَلَبَ مِنْهَا الرُّجُوعَ عَنْ دِينِهَا فَأَبَتْ فَحَمَّى لَهَا مَاءً حَتَّى صَارَ شَدِيدَ الْحَرَارَةِ فَأَلْقَى فِيهِ أَوْلاَدَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الدَّوْرُ إِلَى طِفْلٍ كَانَتْ تُرْضِعُهُ بَكَتْ فَأَيَّدَهَا اللهُ بِكَرَامَةٍ وَأَنْطَقَ الرَّضِيعَ فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي فَإِنَّ عَذَابَ الآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَلاَ تَتَقَاعَسِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ فَتَجَالَدَتْ، فَرَمَى الطِّفْلَ فَلَمَّا جَاءَ دَوْرُهَا قَالَتْ لِفِرْعَوْنَ لِي عِنْدَكَ طَلَبٌ أَنْ تَجْمَعَ الْعِظَامَ وَتَدْفِنَهَا فَقَالَ لَكِ ذَلِكَ، وَأَلْقَاهَا حَيَّةً فِي الْمَاءِ فَمَاتَتْ شَهِيدَةً ثُمَّ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي الإِسْرَاءِ أَكْرَمَهَا اللهُ وَانْبَعَثَتْ مِنْ قَبْرِهَا الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ كَأَنَّهَا تُحَيِّي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم(رواه ابن حبان في صحيحه).

إِخْوَةَ الإيِمَان: لَمَّا وَصَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى فِي فِلَسْطِينَ جَمَعَ اللهُ لَهُ الأَنْبِيَاءَ جَمِيعَهُمْ تَشْرِيفًا لَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ إِمَامًا وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. ومن هُنا نعلَمُ أخوةَ الإيمانِ أن دفاعَنَا عن المسجدِ الأقْصَى إنَّما هو دِفاعٌ عَقَدِيٌّ؛ كيفَ لا؟! وهو مُنْتَهى إسراءِ رسولِنا صلى الله عليه وسلم ومبدَأُ مِعراجِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. 

ثُمَّ نُصِبَ الْمِعْرَاجُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمِعْرَاجُ مِرْقَاةٌ شِبْهُ السُّلَّمِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ دَرَجَةٌ مِنْهَا مِنْ فِضَّةٍ وَالأُخْرَى مِنْ ذَهَبٍ، فَعَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ فَصَارَتْ تُطْوَى لَهُ حَتَّى وَصَلَ السَّمَاءَ الأُولَى فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ وَمَعْنَاهُ هَلْ بُعِثَ إِلَيْهِ لِلْعُرُوجِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَرَحَّبَ بِالنَّبِيِّ وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ ثُمَّ رَأَى فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ ابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى وَيَحْيَى وَفِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ رَأَى يُوسُفَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي وَصْفِهِ يُوسُفَ: “قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ” رَوَاهُ مُسْلِمٌ. مَعْنَاهُ أُعْطِيَ نِصْفَ الْجَمَالِ، أَيِ الْجَمَالِ الَّذِي وُزِّعَ بَيْنَ الْبَشَرِ نِصْفُهُ كَانَ لِيُوسُفَ.وَفِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ رَأَى إِدْرِيسَ وَفِي الْخَامِسَةِ رَأَى هارُونَ وَفِي السَّادِسَةِ رَأَى مُوسَى وَفِي السَّابِعَةِ رَأَى إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ يُشْبِهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَكَانَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَهُوَ بَيْتٌ مُشَرَّفٌ فِي السَّمَاءِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ بَيْتٌ مُشَرَّفٌ فِي الأَرْضِ، وَهَذَا الْبَيْتُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهُ وَلاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ.

  ثُمَّ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وهي شجرةٌ أَصْلُهَا فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ وَإِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ عليه السلام عَلَى صُورَتِهِ الأَصْلِيَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} وَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى الْمِعْرَاجِ.   ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَارَ النَّبِيُّ وَحْدَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ أَقْلاَمِ الْمَلاَئِكَةِ الَّتِي تَنْسَخُ بِهَا فِي صُحُفِهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهُناَكَ أَزَالَ اللهُ عَنْهُ الْحِجَابَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ كَلاَمِ اللهِ فَسَمِعَ كَلاَمَ اللهِ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلاَ صَوْتًا وَلاَ لُغَةً لاَ يُشْبِهُ كَلاَمَ الْمَخْلُوقِينَ فَفَهِمَ مِنْهُ فَرْضِيَّةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَفَهِمَ أَيْضًا أَنَّ مَنْ هَمَّ بِالْحَسَنَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَمَنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: “دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاء”(روى ذلك كله عدة حفاظ، منهم البخاري في صحيحه وكذا مسلم، والطبراني وابن حبان والحاكم). نسأل الله تعالى أن يرزقَنا دخولَ الجنةِ، إنه على كلِّ شيءٍ قدير وبعبادِه لطيفٌ خبيرٌ، هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ لهُ النعمةُ وله الفضلُ وله الثناءُ الحَسَنُ والصلاةُ والسلامُ على سيدنَا محمدٍ سيدِ البشرِ، عبادَ اللهِ اتقوا اللهَ وأطيعوهُ. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ: لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمِعْرَاجِ وُصُولُ الرَّسُولِ إِلَى مَكَانٍ يَنْتَهِي فِيهِ وُجُودُ اللهِ كَمَا يَعْتَقِدُ بَعْضُ النَّاسِ وَهَذَا الاعتقاد مخرج من الإسلام لأَنَّ اللهَ مَوْجُودٌ بِلاَ مَكَانٍ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمِعْرَاجِ تَشْرِيفُ الرَّسُولِ باطلاعه عَلَى عَجَائِبَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَتَعْظِيمُ مَكَانَتِهِ وَرُؤْيَتُهُ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ بِفُؤَادِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللهُ فِي مَكَانٍ.

وَرَجَعَ النَّبِيُّ إِلَى مَكَّةَ فَأَخْبَرَ أُمَّ هَانِئٍ فَخَافَتْ أَنْ يُخْبِرَ قَوْمَهُ حَتَّى لاَ يَزْدَادُوا تَكْذِيبًا لَهُ وَأَذًى، وَهُوَ لاَ يُبَالِي لأَنَّهُ يُرِيدُ تَنْفِيذَ أَمْرِ اللهِ، وَهُوَ أَشْجَعُ خَلْقِ اللهِ قَلْبُهُ ثَابِتٌ مِثْلُ الْجَبَلِ الرَّاسِخِ. حَدَّثَ الْمُشْرِكِينَ فَوَصَلَ الْخَبَرُ لأَبِي جَهْلٍ وَهُوَ رَأْسُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ: تُخْبِرُ قَوْمَكَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: نَعَمْ فَجَمَعَ أَبُو جَهْلٍ النَّاسَ وَقَالَ: قُلْ لَهُمْ، فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ وَكَانَ مِنْ بَيْنِهِمْ مَنْ يَعْرِفُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ النَّبِيَّ قَبْلَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَا ذَهَبَ إِلَى هُنَاكَ فَقَالُوا مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَصِفْهُ لَنَا: فَوَصَفَهُ لَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بَابًا بَابًا حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ:

يَا وَاصِفَ الأَقْصَى أَتَيْتَ بِوَصْفِهِ       وَكَـأَنَّـــكَ الـرَّسَّـــــامُ وَالْبَنَّـــاءُ

  وفي ذلك دليلٌ عظيمٌ على كونِ الإسراءِ والمعراجِ كان بروحِ وجسدِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم؛ إذ لو كانَ رؤيةً مناميَّةً كما يَدَّعي البعضُ لَمَا كذَّبَهُ الكُفَّارُ. اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِبَرَكَاتِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَاحْشُرْنَا تَحْتَ لِوَائِهِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.عِبَادَ اللهِ: إِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيْمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ الكَرِيمِ فَقَالَ: {إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلونَ على النبيِّ يا أيُّهَا الذينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَليهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} لبيكَ اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ في العالمينَ إنكَ حميدٌ مجيدٌ. اللهمّ اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأموات، اللهم ارفعِ البلاءَ والأمراضَ عنِ المسلمينَ، وَفَرِّجْ عَنَّا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ، اللهم فَرِّجِ الكَرْبَ عَنِ الأَقْصَى يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ، لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِيْنَ اللهمّ أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونَحنُ الفقراءُ، اللهم فرج كروبنا واستر عيوبنا وأذهب همومنا يا رب العالمين. اللهمّ أغِث قلوبَنا بالإيمانِ واليقين، وبلادَنا بالخيراتِ يا ربَّ العالمين، اللهم اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبغي يعظكُمْ لعلكم تذكرونَ وأقمِ الصلاةَ. 

الغيبة ومخاطرها

الغيبة ومخاطرها

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، أمّا بعدُ: قال…

تعليقات2

  1. من هم القوم الذين رئاهم الرسول وهم كانو يعذبون في المعراج
    مع انه لم تقم القيامه ولا يوجد حساب بعد

    1. لم يكونوا بشرًا حقيقيين، إنما أمثال بشر، مُثِّلَ للرسول صلى الله عليه وسلم مثال الناس الذين سيكونون في اجنة ومثال الناس الذين سيكونون في النار، والذين رآهم في رحلة الإسراء هم مثال على الناس الذين يعذبون بعذاب خاص على أمور فعلوها.

التعليقات مغلقة.

ربما يعجبك أيضا

Total
0
Share