بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعدُ:
المقدمة
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى
﴿لَو أَنزَلنَا هَٰذَا القُرآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِن خَشيَةِ اللَّهِ وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ﴾
سورة الحشر (21)
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ
المَاهِرُ بِالقُرآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقرَأُ القُرآنَ وَيَتَتَعتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيهِ شَاقٌّ لَهُ أَجرَانِ.
وَيَتَتَعتَعُ فِيهِ (وَلَكِن مَعَ القِرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ مِن غَيرِ تَحرِيفٍ)
رَوَاهُ مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ
عَظَّمَ اللهُ شَأنَ قِرَاءَةِ القُرآنِ، وَعَظَّمَ شَأنَ حَامِلِهِ وَالمَاهِرِ فِيهِ، وَأَجزَلَ عَلَيهِمُ الثَّوَابَ العَظِيمَ، إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ البَرُّ الجَوَادُ الكَرِيمُ فَمِنْ حَقِّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَن يَتَأَدَّبُوا مَع مَوَلَاهُمُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ هَذَا العَبدُ مِمَّن يَقرَأُ كِتَابَ رَبِّهِ وَيَتلُو كَلَامَهُ وَيَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ.
آدب قراءة القرآن
شَرَعَ اللهُ آدَابًا يَنبَغِي لِقَارِئِ القُرآنِ أَن يَقِفَ عِندَهَا، فَمِن ذَلِكَ:
الالتزام بعقيدة القرآن الكريم
أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الإِنسَانِ أَن يَدِينَ وَيَعتَقِدَ بِعَقِيدَةِ القُرآنِ الكَرِيمِ، لِأَنَّ مَن أَرَادَ أَن يُؤجَرَ بِقِرَاءَةِ القُرآنِ لَا بُدَّ أَن يَكُونَ عَلَى عَقِيدَةِ القُرآنِ، إِذِ العِبَادَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بَالإِيمَانِ الصَّحِيحِ، فَمَن كَانَ يَعتَقِدُ أَنَّ اللهَ يُشبِهُ شَيئًا مِن هَذَا العَالَمِ، فهَذَا مَا عَرَفَ اللهَ، وَمَن لَم يَعرِفِ اللهَ لَم يُؤمِن بِاللهِ، وَمَن لَم يُؤمِن باللهِ لَا يُقبَلُ مِنهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِالتِزَامِ بِعَقِيدَةِ القُرآنِ، عَقِيدَةَ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، عَقِيدَةِ الأَشَاعِرَةِ وَالمَاتُرِيدِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ النَّهجُ السَّدِيدُ، نَهجُ تَعَلُّمِ العَقِيدَةِ قَبلَ الشُّرُوعِ بِقِرَاءَةِ القُرآنِ، وَهَذَا هُوَ نَهجُ النَّبِيِّ ﷺ، فَعَن جُندُبِ بنِ عَبدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَنَحنُ فِتيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَيُعَلِّمُنَا الإِيمَانَ قَبلَ أَن نَتَعَلَّمَ القُرآنَ، ثُمَّ يُعَلِّمُنَا القُرآنَ، فَازدَدنَا بِهِ إِيمَانًا، رَوَاهُ ابنُ مَاجَه.
الإخلاص لله في قراءته للقرآن
أَوَّلُ مَا يَنبَغِي لِقَارِئِ القُرآنِ أَن يَقصِدَ بِقِرَاءَتِهِ رِضَا المَولَى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وَحدَهُ، وَأَن يَجتَنِبَ الرِّيَاءَ، وَالرِّيَاءُ هُوَ العَمَلُ بِالطَّاعَةِ لِأَجلِ أَن يَمدَحَهُ النَّاسُ، وَهُوَ مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَيُسَمَّى الشِّركَ الأَصغَرَ لِعِظَمِهِ.
وَخَطَرُ الرِّيَاءِ عَظِيمٌ، فَعَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ يَقُولُ اللهُ لِلقَارِئِ: أَلَم أُعَلِّمكَ مَا أَنزَلتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلتَ؟ قَالَ: كُنتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللهُ: كَذَبتَ وَتَقُولُ المَلَائِكَةُ كَذَبتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَل أَرَدتَ أَن يُقَالَ فُلَانٌ قَارِئٌ، وَقَد قِيلَ ذَلِكَ”، رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِيكِتَابِ خَلقِ أَفعَالِ العِبَادِ.
التطهر قبل قراءة القرآن
يُستَحَبُّ لِقَارِئِ القُرآنِ أَن يَقرَأَ وَهُوَ عَلَى كَامِلِ الطَّهَارَةِ، فَإن قَرَأَهُ عَلَى غَيرِ وُضُوءٍ تَرَكَ الأَفضَلَ، بِخِلَافِ الحَائِضِ وَالجُنُبِ فَإنَّ قِرَاءَةَ القُرآنِ فِي حَقِّهِم حَرَامٌ، فَعَن عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُقرِئُنَا القُرآنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا لَم يَكُن جُنُبًا، رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ.
وَيُسَنُّ لَهُ أَن يَستَعمِلَ السِّوَاكَ قَبلَ قِرَاءَةِ القُرآنِ، وَيُستَحَبُّ أَن تَكُونَ القِرَاءَةُ فِي مَكَانٍ نَظِيفٍ مُختَارٍ، وَلِهَذَا استَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ القِرَاءةَ فِي المَسجِدِ لِكَونِهِ جَامِعًا للنَظَافَةِ وَشَرَفِ البُقعَةِ.
استقبال القبلة
مِن آدَابِ قِرَاءَةِ القُرآنِ استَقبَالُ القِبلَةِ، فَقَد رَوَى الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “خَيرُ المَجَالِسِ مَا استُقبِلَ بِهِ القِبلَةُ“، فَيَجلِسُ مُتَخَشِعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مُطرِقًا رَأسَهُ، وَيُكُونُ جُلُوسُهُ وَحدَهُ فِي تَحسِينِ أَدَبِهِ وَخُضُوعِهِ كَجُلُوسِهِ بَينَ يَدَي مُعَلِّمِهِ، فَهَذَا هُوَ الأَكمَلُ.
التعوذ قبل القراءة
مِن سُنَنِ القُرآنِ أَن يَتَعَوَّذَ باللهِ قَبلَ قِرَاءَةِ القُرآنِ، فَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قَرَأتَ القُرآنَ فَاستَعِذ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ﴾، [سورة النحل: 98].
تدبر القرآن
إِذَا شَرَعَ القَارِئُ فِي القِرَاءَةِ فَليَكُن شَأنُهُ الخُشُوعَ وَالتَّدَبُّرَ عِندَ القِرَاءَةِ، فَهُو المَقصُودُ المَطلُوبُ، وَبِهِ تَنشَرِحُ الصُّدُورُ، وَتَستَنِيرُ القُلُوبُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقفَالُهَا﴾، [سورة محمد :24].
وَكَانَ بَعضُ السَّلَفِ يَتلُو آيَةً وَاحِدَةً يَتَدَبَّرُهَا وَيُرَدِّدُهَا إِلَى الصَّبَاحِ، وَبَعضُ السَّلَفِ صُعِقَ عِندَ القِرَاءَةِ وَمَاتَ، فَهَذَا زُرَارَةُ بنُ أَوفَى التَّابِعِيُّ الجَلِيلُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَمَّ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الفَجرِ فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَٰلِكَ يَومَئِذٍ يَومٌ عَسِيرٌ﴾، [سورة المدثر: 8ـ9]، فَخَرَّ مَيتًا.
وَعَن أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ ﷺ بِآيَةٍ حَتَّى أَصبَحَ يُرَدِّدُهَا، وَهِيَ: ﴿إِن تُعَذِّبهُم فَإِنَّهُم عِبَادُكَ وَإِن تَغفِر لَهُم فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾، [سورة المائدة: 118]، رَوَاهُ ابنُ مَاجَه.
وقَد قَالَ أَحَدُ العارفينَ بِاللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: دَوَاءُ القَلبِ خَمسَةُ أَشياءَ: قَرَاءةُ القَرآنِ بالتَّدَبُّرِ، وخَلَاءُ البَطنِ، وَقِيَامُ اللَّيلِ، وَالتَضَرُّعُ عِندَ السَّحَرِ، وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ.
البكاء عند قراءة القرآن
البُكَاءُ فِي حَالِ القِرَاءَةِ هُوَ صِفَةُ العَارِفِينَ، وَشِعَارُ عِبَادِ اللهِ الصَّالَحِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعًا﴾، [سُورَةُ الإسرَاءِ: 109]، وَقَد وَرَدَت فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَآثَارٌ عَنِ السَّلَفِ، فَمِن ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّﷺ: “إِنَّ هَذَا القُرآنَ نَزَلَ بِحُزنٍ، فَإذَا قَرَأتُمُوهُ فَابكُوا، فَإِن لَم تَبكُوا فَتَبَاكَوا“، رَوَاهُ ابنُ مَاجَه، وَالمَقصُودُ إِظهَارُ الخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ وَاستِحضَارُ الخَوفِ مِنَ اللهِ، وَلَيسَ هَذَا حَثًّا عَلَى الرِّيَاءِ وَتَصَنُّعِ البُكَاءِ كَمَا يَفعَلُ بَعضُ النَّاسِ.
وَعَن عُمَرَ بنِ الخَطَابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ صَلَّى بِالجَمَاعَةِ الصُّبحَ، فَقَرَأ سُورَةَ يُوسُفَ فَبَكَى حَتَّى سَالَت دُمُوعُهُ، رَوَاهُ النَّوَوِيُّ، وَعَن هِشَامٍ قَالَ: رُبَّمَا سَمعتُ بُكَاءَ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ فِي اللَّيلِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَالآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ يَصْعُبُ حَصرُهَا.
التأدب مع القرآن
وَمِمَّا يُعتَنَى بِهِ وَيُتَأَكَّدُ الأَمرُ بِهِ احتِرَامُ القُرآنِ بِتَركِ أُمُورٍ قَد يَتَسَاهَلُ فِيهَا بَعضُ الغَافِلِينَ، فَمِن ذَلِكَ اجتِنَابُ الضَّحِكِ وَاللَّغَطِ وَالحَدِيثِ خِلَالَ القِرَاءَةِ، إِلَّا كَلَامًا يُضطَرُ إِلَيهِ، فَإِنَّ القَارِئَ يُنَاجِي رَبَّهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَا يَعبَثُ وَلَا يَنظِرُ إِلَى مَا يُلهِي وَيُبَدِّدُ الذِّهنَ، وَأَقبَحُ مِن هَذَا كُلِّهِ النَّظَرُ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيهِ.
وَمِنَ الْأَدَبِ مَا جَاءَ فِيْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا قُرِئَ القُرآنُ فَاستَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ﴾، [سورة الأعراف :204].
الخاتمة
قِرَاءَةُ القُرآنِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَأخُذُهَا الآخِرُ عَنِ الأَوَّلِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّلَقِّي مِن أَهلِ العِلمِ وَالمَعرِفَةِ الثِّقَاتِ، لَأَنَّ الإِنسَانَ لَا يَتَأَكَّدُ أَنَّهُ قَرَأَ كَمَا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ إِلَّا عَبرَ التَّعَلُّمِ وَالأَخذِ مِن أَهلِ العِلمِ.
اللهم اجعَلِ القُرآنَ الكَرِيمَ رَبيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا، وَجَلَاءَ أَحزَانِنَا، وَذَهَابَ هُمُومِنَا، إِنَّكَ أَنتَ البَرُّ الجَوَادُ الكَرِيمُ.
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
المصادر
هَذِهِ المَسَائِلُ مَجمُوعَةٌ وَمُلَخَّصَةٌ مِنَ:
- القُرءَانِ الكَرِيمِ.
- السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.
- صَحِيحِ البُخَارِيِّ.
- صَحِيحِ مُسلِمٍ.
- خَلقِ أَفعَالِ العِبَادِ لِلإِمَامِ البُخَارِيِّ.
- سُنَنِ التِّرمِذِيِّ.
- سُنَنِ ابنِ مَاجَه.
- التِّبيَانِ فِي ءَادَابِ قِرَاءَةِ القُرءَانِ لِلإِمَامِ النَّوَوِيِّ.