الأشهر الحُرُم: فضلها وأحكامها في ضوء التاريخ والشريعة

الأشهر الحُرُم - فضلها وأحكامها في ضوء التاريخ والشريعة

بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعدُ:

المقدمة

كَانَتِ العَرَبُ أَوَّلَ الأَمرِ تُؤَرِّخُ بِعَامِ الفِيلِ، وَهُوَ عَامُ مَولِدِهِ ﷺ، وَلَم يَزَلِ التَّارِيخُ كَذَلِكَ فِي عَهدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَهدِ أَبِي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، إِلَى أَن وَلِيَ عُمَرُ بنُ الَخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنه، فجَمَعَ الصَّحَابَةَ وَاتَّفَقُوا رَضِيَ الله عَنهُم عَلَى الهِجرَةِ بِدَايَةً لِلتَّقوِيمِ الإِسلَامِيِّ. فَقَد فَضَّلَ اللهُ تَعَالَى بِحِكمَتِهِ بَعضَ الأَيَّامِ عَلَى بَعضٍ وَبَعضَ الشُّهورِ عَلَى بَعضٍ فَضِيلَةً وَمَزِيَّةً وَذَلِكَ لِيُقبِلَ العِبَادُ إِلَى إِعمَارِهَا وَالتَّعَبُّدِ وَالنَّيلِ مِن فَضَائِلِهَا، وَقد قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [سورة التوبة:36] فَالمُرَادُ بِالشُّهُورِ فِي الآيَةِ شُهُورُ العَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ القُرءَانُ بِلُغَتِهِم وَمَدَارُهَا الأَهِلَّةُ سَوَاءٌ جَاءَ الشَّهرُ ثَلَاثِينَ أَو تِسعَةً وَعِشرِينَ.  

بدء حساب السنة الهجرية من الهجرة

قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: أَرِّخُوا. فَقَالَ: مَا أَرِّخُوا؟ فَقَالَ: شَيءٌ تَفعَلُهُ الأَعَاجِمُ؛ يَكتُبُونَ: فِي شَهرِ كَذَا مِن سَنَةِ كَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: حَسَنٌ فأَرِّخُوا. فَقَالُوا: مِن أَيِّ السِّنِينَ نَبدَأُ؟ فَقَالُوا: مِن مَبعَثِهِ. وَقَالُوا: مِن وَفَاتِهِ. ثُمَّ أَجمَعُوا عَلَى الهِجرَةِ، ثُمَّ قَالُوا: وَأَيُّ الشُّهورِ نَبدَأُ؟ فَقَالُوا: رَمَضَانَ. ثُمَّ قَالُوا: المُحَرَّمُ؛ فَهُوَ مُنصَرَفُ النَّاسِ مِن حَجِّهِم، وَهُوَ شَهرٌ حَرَامٌ. فَاجتَمَعُوا عَلَى المُحَرَّمِ. وَهَذَا هُوَ قَولُ جُمهُورِ الأَئِمَّةِ.

الأشهر العربية 

أَسمَاءُ الأَشهُرِ العَرَبِيَّةِ قِسمَانِ:

  1. قِسمٌ غَيرُ مُستَعمَلٍ.
  2. وَقِسمٌ مُستَعمَلٌ

القسم الأول

وَهُوَ غَيرُ المُستَعمَلِ هُوَ أَسمَاءٌ كَانَتِ العَرَبُ العَارِبَةُ اصطَلَحَت عَلَيهَا وَهِيَ: المُؤتَمِرُ وَنَاجِرٌ وَخَوَّانُ وَوَبَصَانُ وَالحَنِينُ ورُبَّى وَالأَصَمُّ وَعَادِلٌ وَنَاتِقٌ وَوَعِلٌ وَوَرْنَةُ وبُرَكُ.

القسم الثاني

هُوَ الأَسمَاءُ المَشهُورَةُ: المَحَرَّمُ وَصَفَرُ وَالرَّبِيعَانِ أَي رَبِيعٌ الأَوَّلُ وَرَبِيعٌ الآخِرُ وَالجُمَادَيانِ أَي جُمَادَى الأُولَى وَجُمَادَى الآخِرَةُ وَرَجَبٌ وَشَعبَانُ وَرَمَضَانُ وَشَوَّالٌ وَذُو القَِعدَةِ [بِفَتحِ القَافِ وَكَسرِهَا] وَذُو الحِجَّةِ.

أسباب تسمية الشهور بهذه الأسماء

  • مَحَرَّمٌُ: سُمَّيَ بِهِ لِأَنَّهُم أَغَارُوا فِيهِ فَلَم يَنجَحُوا فَحَرَّمُوا القِتَالَ فِيهِ فَسُمِّيَ مُحَرَّمًا.
  • صَفَرٌ: لِصُفرِ بُيُوتِهِم فِيهِ مِنهُم عِندَ خُرُوجِهِم إِلَى الغَارَاتِ وَقِيلَ لِأَنَّهُم كَانُوا يُغِيرُونَ فِيهِ عَلَى بِلَادِ الصُّفرِيَّةِ.
  • الرَّبِيعَانِ: لِأَنَّهُم كَانُوا يُخصِبُونَ فِيهِمَا بِمَا أَصَابُوا فِي صَفَرَ مِنَ الغَنَائِمِ وَالرَّبِيعُ مِنَ الخِصبِ.
  • الجُمَادَيانِ: سُمِّيَا بِذَلِكَ مِن جَمُدَ المَاءُ لِأَنَّ وَقتَ التَّسمِيَةِ كَانَ المَاءُ جَامِدًا فِيهِ لِبَردِهِ. 
  • رَجَبٌ: سُمِّيَ بِهِ لِتَعظِيمِهِم لَهُ، فَالتَّرجِيبُ التَّعظِيمُ، وَقِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَسَطَ السَّنَةِ فَهُوَ مُشتَقٌّ مِنَ الرَّوَاجِبِ وَهِيَ أَنَامِلُ الإِصبَعِ الوُسطَى. وَقِيلَ لِأَنَّ العُودَ رَجَبَ النَّباتَ فِي هَذَا الشَّهرِ أَي أَخرَجَهُ.
  • شَعبَانُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَشَعُّبِ العُودِ فِيهِ بَعدَ أَن رَجَبَ النَّبَاتَ. وَقِيلَ سُمِّيَ بِهِ لِتَشَعُّبِهِم فِيهِ لِلغَارَاتِ.
  • رَمَضَانُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ أَخذًا مِنَ الرَّمْضَاءِ لِأَنَّهُ وَافَقَ وَقتَ تَسمِيَتِهِ زَمَنَ الحَرِّ.
  • شَوَّالٌ: سُمِّيَ بِذَلِكَ أَخذًا مِن شَالَتِ الإِبِلُ بِأَذنَابِهَا إِذَا حَمَلَت، وَقِيلَ مِن شَالَ يَشُولُ إِذَا ارتَفَعَ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الجَاهِلِيَّةُ تَكرَهُ التَّزوِيجَ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِن مَعنَى الإِشَالَةِ وَالرَّفعِ إِلَى أَن جَاءَ الإِسلَامُ فَهَدَمَ ذَلِكَ، فَقَد رَوَى مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَن عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ.
  • ذُو القَّعدَةِ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُم كَانُوا يَقعُدُونَ فِيهِ عَنِ القِتَالِ لِكَونِهِ فِي الأَشهُرِ الحُرُمِ.
  • ذُو الحِجَّةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الحَجَّ فِيهِ.

أول من سماها

قِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَن سَمَّاهَا كِلَابُ بنُ مُرَّةَ وَلَا تَكَادُ العَرَبُ تَنطِقُ بِأَربَعَةٍ مِنهَا إِلَّا مُضَافَةً إِلَى لَفظَةِ شَهرٍ وَهيَ شَهرَا رَبِيعٍ وَشَهرُ رَجَبٍ وَشَهرُ رَمَضَانَ. 

الأشهر الحرم

وَالأَشهُرُ الحُرُمُ مِنهَا أَربَعَةٌ: وَقَد أَجمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا: المُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ، وَذُو القَِعدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ. 

متى تبدأ السنة القمرية

تَبدَأُ السَّنَةُ القَمَرِيَّةُ بِاستِهلَالِ القَمَرِ فَي غَرَّةِ المُحَرَّمِ وَتَنسَلِخُ بِانقِضَاءِ ذِي الحِجَّةِ.

عدد أيام سنة القمرية

وَعَدَدُ أَيَّامِهَا ثَلَاثُمِائَةِ يَومٍ وَأَربَعَةٌ وَخَمسُونَ يَومًا وَخُمُسُ سُدُسِ يَومٍ تَقرِيبًا وَيَتِمُّ مِن هَذَا الخُمُسِ وَالسُّدُسِ فِي كُلِّ ثَلَاثِ سِنِينَ يَومٌ وَاحِدٌ، وَتَزِيدٌ السَّنَةُ الشَّمسِيَّةُ عَنِ السَّنَةِ القَمَرِيَّةِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ وَنِصفِ يَومٍ وَرُبعِ يَومٍ وَثُمُنِ يَومٍ وَخُمُسَا مِن خُمُسِ يَومٍ.

تعظيم الجاهلية للأشهر الحرم 

كَانَتِ العَرَبُ فِي الجَاهِلَيَّةِ مَع مَا هُم عَلَيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالكُفرِ يُعَظِّمُونَ الأَشهُرَ الحُرُمَ الأَربَعَةَ وَيحَرِّمُونَ القِتَالَ فِيهَا حَتَّى لَو لَقِيَ الرَّجُلُ فِيهَا قَاتِلَ أَبِيهِ لَم يَقربهُ إِلَى أَن حَدَثَ فِيهِم النَّسِيءُ، فَكَانُوا يَنسَؤُونَ المُحَرَّمَ أَي يُؤَخِرُونَهُ إِلَى صَفَرَ فَيُحَرِّمُونَهُ مَكَانَهُ وَيَنسَؤُونَ رَجَبًا فَيُؤَخِرُّونَهُ إِلَى شَعبَانَ فَيُحَرِّمُونَهُ مَكَانَهُ لِيَستَبِيحُوا القِتَالَ فِي الأَشهُرِ الحُرُمِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [سورة التوبة:37]. وَكَانُوا يُؤَخِرُّونَ حَجَّهَم الَّذِي كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ عَن وَقتِهِ تَحَرِّيًا مِنهُم لِلسَّنَةِ الشَّمسِيَّةِ، فَكَانُوا يُؤَخِرُّونَهُ فِي كُلِّ عَامٍ أَحَدَ عَشَرَ يَومًا حَتَّى يَدُورَ الدَّورُ فِي ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَيَعُودَ إِلَى وَقتِهِ. 

إرجاع الأشهر إلى موضعها

فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ التَّاسِعَةُ مِنَ الهِجرَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بِأَمرِ رَسُولِ اللهِ فَوَافَقَ خُرُوجَهُ لِلحَجِّ فِي ذِي القَعدَةِ، ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي العَامِ القَابِلِ فَوَافَقَ عَودُ الحَجِّ إِلَى وَقتِهِ فِي ذِي الحِجَّةِ كَمَا وُضِعَ أَوَّلًا، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ حَجَّهُ خَطَبَ فِي النَّاسِ وَقَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ استَدَارِ كَهَيئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ» يَعنِي أَنَّ الحَجَّ قَد عَادَ فِي ذِي الحِجَّةِ. وَكَانَ أَوَّلَ مَن نَسَأَ الشُّهُورَ عَمرُو بنُ لُحَيٍّ.

سبب تخصيص المحرم باسم شهر الله 

سُئِلَ السُّيُوطِيُّ لِمَ خُصَّ المُحَرَّمُ بِقَولِهم شَهرُ اللهِ دُونَ سَائِرِ الشُّهورِ مَع أَنَّ مَا فِيهَا يُسَاوِيهِ فِي الفَضلِ أَو يَزِيدُ عَلَيهِ كَرَمَضَانَ؟ 

فَأَجَابَ: إِنَّ هَذَا الاسمَ إِسلَامِيٌّ دُونَ سَائِرِ الشُّهُورِ فَإِنَّ أَسمَاءَهَا كُلَّهَا عَلَى مَا كَانَت عَلَيهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَقَرَّهَا النَّبِيُّ ﷺ فَلَم يُغَيِّر إِلَّا مَا غَيَّرَهُ الِإسلَامُ وَكَانَ اسمُ المُحَرَّمِ فِي الجَاهِلِيَّةِ صَفَرَ الأَوَّلَ وَالَّذِي بَعدَهُ صَفَرَ الثَّانِي فَلَمَّا جَاءَ الإِسلَامُ سَمَّاهُ اللهُ المُحَرَّمُ فَأُضِيفَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِهَذَا الاعتِبَارِ.اهـ

وَقَد ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَمَّاهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: «شَهرُ اللهِ الَّذِي تَدعُونَهُ المُحَرَّمَ». وَإِضَافَةُ هَذَا الشَّهرِ إِلَى اللهِ هِيَ لِتَشرِيفِ هَذَا الشَّهرِ وَإِلَّا فِإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتَشَرَّفُ بِأَحَدٍ مِن خَلقِهِ فَهُو عَزَّ وَجَلَ كَامِلُ الصِّفَاتِ لَا يَزِيدُ كَمَالًا لَم يَكُن لَهُ قَبلَ وُجُودِ خَلقِهِ كَمَا نَقُولُ بَيتُ اللهِ أَي البَيتُ المُشَرَّفُ عِندَ اللهِ الَّذِي بُنِيَ لِعِبَادَتِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيهِ وَمِثلُ ذَلِكَ أَن يُقَالَ عَرشُ الرَّحمَنِ أَي العَرشُ المَعَظَّمُ شَأنُهُ عِندَ اللهِ.

فضل صوم شهر الله المحرم وعَشره الأُوَل 

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَفضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ شَهرِ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ الَّذِي تَدعُونَهُ المُحَرَّمَ وَأَفضَلُ الصَّلَاةِ بَعدَ المَفرُوضَةِ الصَلَاةُ فِي جَوفِ اللَّيلِ» فَهَذَا الحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَفضَلَ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ مِنَ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ هُوَ صِيَامُ المُحَرَّمِ، وَقَد يَحتَمِلُ أَن يُرَادَ أَنَّهُ أَفضَلُ شَهرٍ يُتَطَوَّعُ بِصِيَامِهِ كَامِلًا بَعدَ رَمَضَانَ، أَمَّا التَّطُوُّعُ بِصِيَامِ بَعضِ شَهرٍ فَقَد يَكُونُ أَفضَلُ مِن بَعضِ أَيَّامِهِ: كَصِيَامِ يَومِ عَرَفَةَ أَو عَشرِ ذِي الحِجَّةِ أَو سِتَةٍ مِن شَوَّالٍ وَالأَيَّامِ البِيضِ وَيَومِ عَاشُورَاءَ وَنحَوِ ذَلِكَ. 

وَلَكِن يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَصُومُ شَعبَانَ وَلَم يُنقُل أَنَّه كَانَ يَصُومُ المُحَرَّمَ، إِنَّمَا كَانَ يَصُومُ عَاشُورَاءَ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ سَنَةٍ: «لَئِن عِشتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ».

تعيين الأفضل بين الأشهر الحرم

اختَلَفَ العُلَمَاءُ فِي أَيِّ الأَشهُرِ الحُرُمِ أَفضَلُ:

  • قَالَ الحَسَنُ وَغَيرُهُ: أَفضَلُهَا شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ وَرَجَّحَهُ طَائِفَةٌ مِنَ المُتَأَخِّرِينَ، وَقَالَ: “إِنَّ اللهَ افتَتَحَ السَّنَةَ بِشَهرٍ حَرَامٍ وَخَتَمَهَا بِشَهرٍ حَرَامٍ فَلَيسَ شَهرٌ فِي السَّنَةِ بَعدَ شَهرِ رَمَضَانَ أَعظَمُ عِندَ اللهِ مِنَ المُحَرَّمِ وَكَانَ يُسَمَّى شَهرَ اللهِ الأَصَمَّ مِن شِدَّةِ تَحرِيمِهِ”. 
  • وَقَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ وَغَيرُهُ: أَفضَلُ الأَشهُرِ الحُرُمِ ذُو القَعدَةِ أَو ذُو الحِجَّةِ.
  • وَزَعَمَ بَعضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ أَفضَلَ الأَشهُرِ الحُرُمِ رَجَبٌ وَهُوَ قَولٌ مَردُودٌ.

وَقَد نَظَمَ بَعضُهُم ذَلِكَ فَقَالَ:

وَأَفضلُ الشُّهُورِ بالإِطلاقِ
شَهرُ الصِّيَامِ فَهْوَ ذُو السِّبَاقِ

فَشَهْرُ رَبِّنَا هُوَ المُحَرَّمُ
فَرَجَبٌ فَالحِجَّةُ المُعَظَّمُ

فَقَعْدَةٌ فَبَعْدَهُ شَعبَانُ
وَكُلُّ ذَا جَاءَ بِهِ البَيَانُ

فائدة في صيام الأشهر الحرم

وَلَمَّا كَانَتِ الأَشهُرُ الحُرُمُ أَفضَلَ الأَشهُرِ بَعدَ رَمَضَانَ مُطلَقًا وَكَانَ صِيَامُهَا كُلُّهَا مَندُوبًا إِلَيهِ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَكَانَ بَعضُها خِتَامَ السَّنَةِ الهِلَالِيَّةِ، وَبَعضُهَا مِفتَاحًا لَهَا، فَمَن صَامَ شَهرَ ذِي الحِجَّةِ سِوَى الأَيَّامِ المُحَرَّمِ صِيَامُهَا مِنهُ، وَصَامَ المُحَرَّمَ فَقَد خَتَمَ السَّنَةَ بِالطَّاعَةِ وَافتَتَحَهَا بِالطَّاعَةِ.

ما هي أفضل الأيام من شهر الله المحرم

أَفضَلُ شَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ عَشرُهُ الأُوَلُ، قَالَ أَبُو عُثمَانَ النَّهدِيُّ: كَانُوا يُعَظِّمُونَ ثَلَاثَ عَشَرَاتٍ: العَشرُ الأَخِيرُ مِن رَمَضَانَ، وَالعَشرُ الأُوَلُ مِن ذِي الحِجَّةِ، وَالعَشرُ الأُوَلُ مِنَ المُحَرَّمِ.

وَقَد قِيلَ إِنَّ العَشرَ الأُوَلَ مِنَ المُحَرَّمِ هِيَ العَشرُ الَّتِي أَتَمَّ اللهُ بِهَا مِيقَاتَ مُوسَى أَربَعِينَ لَيلَةً، وَإِنَّ سَمَاعَ مُوسَى كَلَامَ اللهِ الذَّاتِيَّ الأَزَلِيَّ الأَبَدِيَّ الَّذِي لَيسَ حَرفًا وَلَا صَوتًا لَا هُوَ كَلَامٌ مُتَتَابِعٌ وَلَا مُتَقَطِّعٌ لَا هُو مُبتَدَأٌ وَلَا مُختَتَمٌ فَلَيسَ هُوَ كَكَلَامِ المَخلُوقِينَ وَقَعَ فِي عَاشِرِهَا.

ما هي الأمور التي ينبغي بدء العام الهجري بها

يَنبَغِي افتِتَاحُ العَامِ بِتَوبَةٍ نَصُوحٍ تَمحُو مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ.

وَيَتَأَكَّدُ أَيضًا الاجتِهَادُ بِبِدءِ العَامِ بِوُجُوهِ المَبَرَّاتِ وَصُنُوفِ الطَّاعَات ِعَلَى عَكسِ مَا يَعمَلُهُ الكُفَّارُ وَالفُجَّارُ وَالفُسَّاقُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الرُّومِيَّةِ مِنِ افتِتِاحِهَا بِالزِّنَى وَشُربِ الخَمرِ وَالمُحَرَّمَاتِ بَدَلَ أَن يُحَاسِبُوا أَنفُسَهَم وَيَندَمُوا عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ.

هل يجوز التهنئة بدخول العام الهجري

اختَلَفَ العُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ بَينَ الإِبَاحَةِ وَالنَّدبِ:

  • فَقَالَ القَاضِي نَجمُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ: لَم أَرَ لِأَحَدٍ مِن أَصحَابِنَا كَلَامًا فِي التَّهنِئَةِ بِالعِيدِ وَالأَعوَامِ وَالأَشهُرِ كَمَا يَفعَلُهُ النَّاسُ لَكِن نَقَلَ الحَافِظُ المُنذِرِيُّ عَنِ الحَافِظِ المَقدِسِيِّ أَنَّهُ أَجَابَ عَن ذَلِكَ بِأَنَّ النَّاسَ لَم يَزَالُوا مَختَلِفِينَ فِيهِ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدعَةَ اهـ
  • وقَالَ الشَّيخُ زَكَرِيَّا الأَنصَارِيُّ بِأَنَّهَا مَشرُوعَةٌ وَنَقَلَ الشَّيخُ الفَقِيهُ عَبدُ الحَمِيدِ الشَّرَوَانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى ((تُحفَةِ المُحتَاجِ)) عَن بَعضِ مَشَايِخِهِ سُنِّيَةَ التَّهنِئَةِ بِالعِيدِ وَنَحوِهِ مِنَ العَامِ وَالشَّهرِ عَلَى المُعتَمَدِ مَع المُصَافَحَةِ إِنِ اتَّحَدَ الجِنسُ فَلَا يُصَافِحُ الرَّجُلُ المَرأَةَ الأَجنَبِيَّةَ وَلَا عَكسُهُ وَيُسَنُّ أَن يَدعُوَ لَهُ بِنَحوِ “تَقَبَّلَ اللهُ مِنكُم” أَي الأَعمَالَ الصَّالِحَةَ وَ”أَحيَاكُمُ اللهُ لِأَمثَالِهِ” وَ”كُلَّ عَام ٍوَأَنتُم بِخَيرٍ”.

خاتمة

قَالَ الحَافِظُ أَبُو الفَرَج ابنُ الجَوزِيُّ: يَا ‌عَجَبًا ‌كَيْفَ ‌أَنِسَ ‌بِالدُّنْيَا مُفَارِقُهَا، وَأَمِنَ النَّارَ وَارِدُهَا، كَيْفَ يَغْفَلُ مَنْ لا يُغْفَلُ عَنْهُ، كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ، كَيْفَ يَلْهُو مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجَلِهِ وَحَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ. إِخْوَانِي: الدُّنْيَا فِي إِدْبَارٍ، وَأَهْلُهَا مِنْهَا فِي اسْتِكْثَارٍ، وَالزَّارِعُ فِيهَا غَيْرَ التُّقَى لا يَحْصُدُ إِلا النَّدَمَ. قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ بَيْتَانِ: بَيْتٌ شَاهِدٌ وَبَيْتٌ غَائِبٌ، فَلا يُلْهِيَنَّكَ بَيْتُكَ الْحَاضِرُ الَّذِي فِيهِ عُمْرُكَ قَلِيلٌ عَنْ بَيْتِكَ الْغَائِبِ الَّذِي عُمْرُكَ فِيهِ طَوِيلٌ.فَفِي آخِرِ هَذَا العَامِ، وَمَع بِدَايَةِ عَامٍ جَدِيدٍ حَرِيٌ أَن يُجَدِّدَ المُسلِمُ التَّوبَةَ وَالثَّبَاتَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَتَركِ مَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ الأَقوَالِ وَالأَفعَالِ، وَلنَأخُذ مَع بِدَايةِ العَامِ الجَدِيدِ المَوعِظَةَ أَنَّ العُمُرَ أَعوَامٌ وَسَنَوَاتٌ وَأَيَّامٌ وَسَاعَاتٌ،  وَالمُؤمِنُونَ المُتَّقُونَ فِي كلُِّ زَمَنٍ وَحِينَ لَا يَزدَادُونَ بِالأَعوَامِ إِلاّ خَيرًا وَبِرًّا وَتَقوَى، وَلَا تَمُرُّ بِهِمُ السِّنُونَ إِلَّا وَهُم  لِلخَيرَاتِ وَاغتِنَامٍ لِلصَّالِحَاتِ وَتَركٍ لِمَا نَهَى اللهُ عَنهُ مُسرِعُونَ، فَفِي القُرآنِ العَظِيمِ تَذكِرَةٌ لِلمُؤمِنِينَ وَهِيَ قَولُهُ تَعَالَى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران:133]فَإِنَّ فِي ذَهَابِ عَامٍ وَحُلُولِ آخَرَ مَوعِظةً وَتذكِيرًا بِأَنََّ هَذِهِ الدُّنيَا لَا تَبقَى عَلَى حَالٍ وَلَا تَصفُو لِأَحَدٍ كَاذِبَةُ الأَمَانِي، المَرءُ مِنهَا عَلَى خَطَرٍ، جَديدُهَا يَبلَى وَأَيَّامُهَا مَعدُودَةٌ، وَالآجَالُ فِيهَا مَكتُوبَةٌ هِيَ بِمَثَابَةِ ظِلٍّ زَائِلٍ، أَو كَأحلَامِ النَّائِمِ، فاحذَرِ الغَفلَةَ فِيهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) [سورة الكهف:45]، طُوبَى لِمَن لَم تَشغَلهُ هَذِهِ الدُّنيَا عَنِ الاستِعدَادِ لِلدَّارِ البَاقِيَةِ، وَهَنِيئًا لِمَن لَم يَغتَرََّ بِبَرِيقِ هَذِه الدُّنيَا وَزِينَتِها وَزَخَارِفِها عَنِ الاستِعدَادِ لِيَومِ الرَّحِيلِ وَالآخِرَةِ.

المادة مجموعة ومرتبة من

  • المَوَاعِظِ وَالاعْتِبَارِ لِلْمَقرِيزِيِّ.
  • نِهَايَةِ الأَرَبِ فِي فُنُونِ الأَدَبِ لِلنُّوَيرِيِّ.
  • الرَّوضِ الأُنُفِ لِأَبِي القَاسِمِ السُّهَيلِيِّ.
  • حِفظِ العُمُرِ لِابنِ الجَوزِيِّ.
  • الحَاوِي لِلفَتَاوِي لِجَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ.

لا تحزن.. إن الله معنا – الهجرة النبوية من ظلال الغار إلى مجد العزة

المقدمة الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ عُمُرَ الآدَمِيِّ سَفَرًا إِلَى الأُخْرَى طَوِيلا وَقَصِيرًا، فَسَارَ النَّاسُ بِبَضَائِعِ الأَعْمَالِ، فَرَبِحَ الْمُتَيَقِّظُونَ…

ربما يعجبك أيضا

Total
0
Share