المحتويات
- مَا الحُكمُ الشَّرعِيُّ فِي دَفعِ الزَّكَاةِ فِي الأَعمَالِ التَّطَوُّعِيَّةِ كَبِنَاءِ مَسجِدٍ أَو مُستَشفًى أَو مَدرَسَةٍ أَو غَيرِ ذَلِكَ؟ وَهَل تُجزِئُ فِي دَفعِ الزَّكَاةِ؟
- المقدمة
- الأصناف الثمانية الذين تدفع لهم الزكاة
- فائدة: قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو مثال عن الرقاب
- حكم إعطاء الزكاة لغير هؤلاء الثمانية
- الدليل على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى غير الأصناف المذكورة
- لا تُدفَع الزكاة لهاشمي ومطلبي
- شخص دفع الزكاة ورجع فيها، ما الحكم؟
- الخاتمة
- المصادر
مَا الحُكمُ الشَّرعِيُّ فِي دَفعِ الزَّكَاةِ فِي الأَعمَالِ التَّطَوُّعِيَّةِ كَبِنَاءِ مَسجِدٍ أَو مُستَشفًى أَو مَدرَسَةٍ أَو غَيرِ ذَلِكَ؟ وَهَل تُجزِئُ فِي دَفعِ الزَّكَاةِ؟
الجواب:
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَمَّا بَعدُ:
المقدمة
قَد أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِدَفعِ الزَّكَاةِ إِلَى الأَصنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ فِي القُرءَانِ بِقَولِهِ: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابنِ السَّبِيلِ﴾، [سُورَةَ التَّوبَة:60]، وَأَمرُ الشَّرعِ مَبنِيٌّ عَلَى الِاتِّبَاعِ لَا عَلَى الِابتِدَاعِ، فَلَا يَجُوزُ استِحدَاثُ مَصَارِفَ لِلزَّكَاةِ فِي غَيرِ هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ كَبِنَاءِ مَسجِدٍ أَو مَدرَسَةٍ أَو مُستَشفًى أَو نَحوِ ذَلِكَ مِن مَصَارِفِ الخَيرِ فَهِيَ وَإِن كَانَت مَصرِفَ خَيرٍ إِلَّا أَنَّهَا لَا تُجزِئُ فِي الزَّكَاةِ وَلَا تَبرَأُ بِهَا ذِمَّةُ المُزَكِّي وَفِيمَا يَلِي تَفصِيلُ هَذَا الحُكمِ.
الأصناف الثمانية الذين تدفع لهم الزكاة
الفَقِيرُ: وَهُوَ مَن لَا نَفَقَةَ وَاجِبَةٌ له عَلَى غَيرِهِ كَالأُمِّ وَالأَبِ الفَقِيرَينِ فَإِنَّ لَهُمَا نَفَقَةً وَاجِبَةً عَلَى غَيرِهِمَا هُوَ وَلَدُهُمَا الَّذِي يَكفِيهِمَا فَلَا يُعطَيَانِ مِن مَالِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَملِكُ مَالًا وَلَا كَسبًا حَلالًا يَكفِيهِ، أَي لَا يَجِدُ إِلَّا أَقَلَّ مِن نِصفِ مَا يَكفِيهِ لِحَاجَتِهِ الَّتِي يَحتَاجُهَا لِنَفسِهِ وَلِمَن تَلزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَالزَّوجَةِ كَمَن يَحتَاجُ لِعَشَرَةٍ فَلَا يَجِدُ إِلَّا ثَلَاثَةً.
المِسكِينُ: وَهُوَ الَّذِي لَهُ مَا يَسُدُّ مَسَدًّا مِن حَاجَتِهِ إِمَّا بِمِلكٍ أَو بِعَمَلٍ، لَكِنَّهُ لَا يَكفِيهِ كِفَايَةً لائِقَةً بِحَالِهِ، كَمَن يَحتَاجُ لِعَشَرَةٍ فَلَا يَجِدُ إِلَّا ثَمَانِيَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةُ الفَقِيرُ مَن لَهُ أَدنَى شَيءٍ أَي دُونَ النِّصَابِ وَالمِسكِينُ أَدنَى حَالًا مِنَ الفَقِيرِ.
العَامِلُونَ عَلَيهَا: وَهُمُ الَّذِينَ نَصَبَهُمُ الخَلِيفَةُ أَوِ السُّلطَانُ لِأَخذِ الزَّكَوَاتِ مِن أَصحَابِ الأَموَالِ وَلَم يَجعَل لَهُم أُجرَةً مِن بَيتِ المَالِ.
المُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُم: وَهُم مَن دَخَلَ فِي الإِسلَامِ وَلَم يَتَآلَف بَعدُ مَعَ المُسلِمِينَ يَشعُرُ نَفسَهُ بَعدُ غَرِيبًا عَنهُم، فَيُعطَى حَتَّى تَقوَى أُلفَتُهُ بِالإِسلامِ مِنَ الزَّكَاةِ، أَو يَكُونَ شَرِيفًا فِي قَومِهِ وَيُرجَى بِإِعطَائِهِ إِسلَامُ أَسيَادِ قَومِهِ لَمَّا يَرَوا مَا أُعطِيَ مِنَ الزَّكَاةِ. وَهَذا الصِّنفُ سَقَطَ عِندَ الحَنَفِيَّةِ فَلا يُعطُونَهُ لَأَنَّهُم قَالُوا هَذا كَانَ أَوَّلَ الإِسلَامِ عِندَ الضَّعَفِ وَالآنَ وَللهِ الحَمدُ المُسلِمُونَ في غُنيَةٍ عَن ذَلكَ.
الرِّقَابُ: وَهُمُ المُكَاتَبُونَ كِتَابَةً صَحِيحَةً، وَهَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ تَشَارَطُوا مَعَ مَن يَملِكُونَهُم عَلَى أَن يَدفَعُوا كَذَا مِنَ المَالِ فَإِذَا دَفَعُوا ذَلِكَ المَبلَغَ يَكُونُونَ أَحرَارًا، كَمَا حَصَلَ لِسَلمَانَ الفَارِسِيِّ.
فائدة: قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو مثال عن الرقاب
كَانَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ سَلمَانُ الفَارِسِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فِي الأَصلِ حُرًّا مِن بَيتٍ مَشهُورٍ فِي فَارِسَ مِنَ المَجُوسِ مِنَ الَّذِينَ يَعبُدُونَ النَّارَ، لَكِنَّهُ تَرَكَ بَلَدَهُ وَتَغَرَّبَ، فَأَخَذَهُ أُنَاسٌ مِنَ العَرَبِ وَبَاعُوهُ بِالمَالِ إِلَى أَن وَصَلَ إِلَى المَدِينَةِ فَوَقَعَ فِي يَدِ يَهُودِيٍّ، ثُمَّ تَشَارَطَ مَعَ سَيِّدِهِ عَلَى مَبلَغٍ مِنَ المَالِ، فَدَفَعَ إِلَيهِ فَتَحَرَّرَ مِنهُ، وَقَد عَاشَ ثَلاثَمِائَةِ سَنَةٍ، وَخَدَمَ حَوَالِي أَربَعَةَ عَشَرَ رَاهِبًا، دَلَّهُ ءَاخِرُهُم عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
الغَارِمُونَ: وَهُمُ المَدِينُونَ العَاجِزُونَ عَنِ الوَفَاءِ أَي رَدِّ الدَّينِ كَالَّذِي استَدَانَ لِنَفسِهِ وَصَرَفَهُ فِي غَيرِ مَعصِيَةٍ أَو صَرَفَهُ في مَعصِيَةٍ وَتَابَ وَظَهَرَت عَلامَاتُ تَوبَتِهِ وَصِدقِهِ فَيُعطَى مِن مَالِ الزَّكاةِ قَدرَ دَينِهِ إِن كَانَ الدَّينُ حَالًّا أَي لَيسَ مُؤَجَّلًا إِلى وَقتٍ مُعَيَّنٍ وَعَجَزَ عَن وَفَائِهِ.
فِي سَبِيلِ اللهِ: وَالمُرَادُ بِهِ الغُزَاةُ المُتَطَوِّعُونَ بِالجِهَادِ مَجَّانًا بِدُونِ رَاتِبٍ.
ابنُ السَّبِيلِ: وَالمُرَادُ بِهِ المُسَافِرُ أَو مُرِيدُ السَّفَرِ المُحتَاجُ بِأَن لَم يَكُن مَعَهُ مَا يَكفِيهِ لِسَفَرِهِ للوُصُولِ إِلَى بَلَدِهِ فَيُعطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَلَو كَان سَفَرُهُ لِنُزهَةٍ أَو كَانَ غَرِيبًا مُجتَازًا بِمَحَلِّ الزَّكَاةِ وَكَانَ مُحتَاجًا أُعطِيَ مَا يَكفِيهِ فِي سَفَرِهِ ذَهَابًا وَإِيَابًا وَلَو كَانَ يَرجِعُ إِلى المَكَانِ الَّذِي سَافَرَ مِنهُ أَو كَانَ لَهُ مَالٌ بِغَيرِ مَحَلِّ الزَّكَاةِ بِشَرطِ أَن يَكُونَ سَفَرُهُ غَيرَ مُحَرَّمٍ.
حكم إعطاء الزكاة لغير هؤلاء الثمانية
يَحرُمُ وَلَا يَصِحُّ دَفعُ الزَّكَاةِ إِلَى غَيرِ هَؤُلاءِ الأَصنَافِ الثَّمَانِيَةِ المَذكُورِينَ فِي الآيَةِ، فَلَا يَجُوزُ دَفعُ الزَّكَاةِ لِبِنَاءِ المَسَاجِدِ وَالمُستَشفَيَاتِ وَالمَدَارِسِ وَتَكفِينِ المَيِّتِ وَإِصلَاحِ الطُّرُقِ وَغَيرِهَا مِن أَعمَالِ البِرِّ، فَمَن دَفَعَ مِن زَكَاتِهِ إِلَى مَدرَسَةٍ أَو إِلَى مُستَشفًى أَو إِلَى بِنَاءِ مَسجِدٍ أَو إِلَى أَيِّ شَيءٍ مِن أَعمَالِ البِرِّ غَيرِ الأَصنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُم اللهُ بِكِتَابِهِ فَليَعلَم أَنَّ زَكَاتَهُ مَا صَحَّت، فَيَجِبُ عَلَيهِ إِعَادَةُ الدَّفعِ لِلمُستَحِقِّينَ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ (أَي يَتَصَرَّفُونَ) فِي مَالِ اللهِ بِغَيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ»، رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ.
فَيُفهَمُ مِن هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي يَأخُذُ الزَّكَاةَ وَلَيسَ هُوَ مِنَ المُستَحِقِّينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ فِي القُرءَانِ لَهُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ، وَيَدخُلُ فِي الحَدِيثِ الَّذِي يَأكُلُ مَالَ الوَقفِ الإِسلَامِيِّ أَوِ الغَنِيمَةَ أَو مَالَ اليَتِيمِ أَو غَيرَ ذَلِكَ بِغَيرِ حَقٍّ، أَي بِغَيرِ الوَجهِ الشَّرعِيِّ الَّذِي بَيَّنَهُ الفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِم.
الدليل على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى غير الأصناف المذكورة
الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفعُ الزَّكَاةِ لِكُلِّ مَا هُوَ بِرٌّ وَخَيرٌ مِمَّا عَدَا الأَصنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَأَنَّ المُرَادَ بِقَولِهِ تَعَالَى ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾ لَيسَ كُلَّ أَنوَاعِ البِرِّ وَالإِحسَانِ مِن بِنَاءِ مَسجِدٍ وَمَدرَسَةٍ وَمُستَشفًى وَنَحوِ ذَلِكَ هُوَ قَولُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عِندَمَا ذَكَرَ الزَّكَاةَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ»، أَخرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالبَيهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَقَولُهُ ﷺ لِرَجُلَينِ جَاءَا يَسأَلانِهِ الزَّكَاةَ وَكَانَا قَوِيَّينِ: «إِن شِئتُمَا أَعطَيتُكُمَا وَلَيسَ فِيهَا حَقٌّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكتَسِبٍ»، أَخرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالبَيهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ.
فَحَرَّمَ رَسُولُ اللهُ ﷺ بِهَذَينِ الحَدِيثَينِ الزَّكَاةَ عَلَى مَن يَملِكُ مَالًا يُغنِيهِ أَي يَكفِيهِ لِحَاجَاتِهِ، وَعَلَى مَن لَهُ قُوَّةٌ عَلَى العَمَلِ الَّذِي يَكفِيهِ لِحَاجَاتِهِ الأَصلِيَّةِ، لِأَنَّ المِرَّةَ هِيَ القُوَّةُ وَالقُدرَةُ عَلَى الِاكتِسَابِ، وَالسَّوِيُّ: التَّامُّ الخَلقِ.
فَدَلَّنَا حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ المُبَيِّنُ لِمَا أَنزَلَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، أَنَّ المُرَادَ بِقَولِ اللهِ تَعَالَى ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾ فِي ءَايَةِ الصَّدَقَاتِ بَعضُ أَعمَالِ البِرِّ لَا كُلُّهَا، وَهُوَ الجِهَادُ.
وَلَم يَقُلِ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ المُجتَهِدِينَ إِنَّ كَلِمَةَ ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾ تَعُمُّ كُلَّ مَشرُوعٍ خَيرِيٍّ، لَكِن أَدخَلَ الإِمَامُ أَحمَدُ بنُ حَنبَلٍ فِي هَذَا الصِّنفِ مَن يُرِيدُ الحَجَّ وَهُوَ فَقِيرٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي المَجمُوعِ (٢٠١/٦) مَا نَصُّهُ « ﴿ وَفِي سَبِيلِ اللهِ» فَإِنَّ المُرَادَ بِهِ بَعضُهُم وَهُمُ المُتَطَوِّعُونَ الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُم فِي الدِّيوَانِ وَلَم يُذكُرُوا بِاسمِهِمُ الخَاصِّ» اهـ . وَذَكَرَ القَاضِي أَبُو بَكرِ بنُ العَرَبِيِّ فِي أَحكاَمِ القُرءَانِ (٩٦٩/٢) «أَنَّ مَالِكًا قَالَ: سُبُلُ اللهِ كَثِيرَةٌ وَلَكِنِّي لَا أَعلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ المُرَادَ بِسَبِيلِ اللهِ هَهُنَا الغَزوُ» اهـ . وَقَالَ ابنُ قُدَامَةَ الحَنبَلِيُّ في كِتَابِهِ المُغنِي مَا نَصُّهُ: «هَذَا الصِّنفُ السَّابِعُ مِن أَهلِ الزَّكَاةِ وَلَا خِلَافَ في اسْتِحقَاقِهِم وَبَقَاءِ حُكمِهِم وَلا خِلافَ في أَنَّهُمُ الغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِأَنَّ سَبِيلَ اللهِ عِندَ الإِطلَاقِ الغَزوُ» اهـ .
فَليُحذَر مِن هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَجمَعُونَ أَموَالَ الزَّكَوَاتِ بِاسمِ المُستَشفَى أَو بِنَاءِ جَامِعٍ أَو بِنَاءِ مَدرَسَةٍ، هَؤُلاءِ حَرَامٌ عَلَيهِم فِعلُ ذَلِكَ وَحَرَامٌ عَلَى الَّذِينَ يُعطُونَهُم مَعَ مَعرِفَتِهِم بِحَالِهِم، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كُلُّ عَمَلٍ خَيرِيٍّ يَدخُلُ فِي قَولِهِ تَعَالَى ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾ [سُورَةَ التَّوبَة:60]
مَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ» فَتَوَعَّدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الَّذِينَ يَتَصَرَّفُونَ بِأَموَالِ الزَّكَاةِ بِغَيرِ حَقٍّ بِعَذَابِ النَّارِ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَو كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ جَاءَ التَّفصِيلُ فِي الآيَةِ، إِذ إِنَّ إِعطَاءَ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ عَمَلُ خَيرٍ، وَإِعطَاءَ الغَارِمِينَ عَمَلُ خَيرٍ، وَإِعطَاءَ بَاقِي الأَصنَافِ عَمَلُ خَيرٍ ثُمَّ إِنَّ لَفظَةَ ﴿إِنَّمَا﴾ فِي الآيَةِ ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ﴾ تُفِيدُ الحَصرَ قَالَ الرَّازِيُّ فِي التَّفسِيرِ الكَبِيرِ الكَبِيرِ (٨ ١٦ ١٠٧): «إِنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» مُرَكَّبَةٌ مِن «إِنَّ» وَ«مَا»، وَكَلِمَةَ «إِنَّ» لِلإِثبَاتِ وَكَلِمَةَ «مَا» لِلنَّفيِ فَعِندَ اجتِمَاعِهِمَا وَجَبَ بَقَاؤُهُمَا عَلَى هَذَا الَمفهُومِ فَوَجَبَ أَن يُفِيدَ ثُبُوتَ المَذكُورِ وَعَدَمَ المُغَايَرَةِ»، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعنَاهُ لَيسَ كُلَّ عَمَلِ خَيرٍ، وَمَن قَالَ بِذَلِكَ فَقَد خَالَفَ الإِجمَاعَ فَقَد نَقَلَ ابنُ حَزمٍ الإِجمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفعُ الزَّكَاةِ لِبِنَاءِ مَسَاجِدَ، وَالإُجمَاعُ هُوَ اجتِمَاعُ المُجتَهِدِينَ وَلَا يُعتَدُّ فِي الإِجمَاعِ بِقَولِ العُلَمَاءِ الَّذِينَ لَم يَصِلُوا إِلَى مَرتَبَةِ الاجتِهَادِ.
وَلَو كَانَ يَجُوزُ دَفعُ الزَّكَاةِ لِكُلِّ عَمَلٍ خَيرِيٍّ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ المَشهُورِ الَّذِي أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «تُؤخَذُ مِن أَغنِيَائِهِم وَتُرَدُّ إِلَى فُقَرَائِهِم» لِأَنَّ مُطلَقَ الأَعمَالِ الخَيرِيَّةِ تَجُوزُ فِي الغَنِيِّ وَالفَقِيرِ وَإِن كَانَ التَّصَدُّقُ عَلَى الفَقِيرِ أَفضَلَ.
لا تُدفَع الزكاة لهاشمي ومطلبي
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ الآخِذُ غَيْرَ هَاشِمِيٍّ وَلا مُطَّلِبِيٍّ وَلا مَوْلًى لَهُمْ فَالْهَاشِمِيُّ وَالْمُطَّلِبِيُّ وَمَوَالِيهِمْ وفي حَدِيثِ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَوْلَى هُنَا الْعَتِيقُ، لا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ وَكَذَا مَنْ شُكَّ هَلْ هُوَ هَاشِمِيٌّ أَوْ مُطَّلِبِيٌّ. وَالْمُرَادُ بِالْهَاشِمِيِّ هُنَا هُوَ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ ذُرِّيَّةِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَالْمُرَادُ بِالْمُطَّلِبِيِّ هُنَا هُوَ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ ذُرِّيَّةِ الْمُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهَاشِمٌ وَمُطَّلِبٌ أَخَوَانِ، فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا فَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الزَّكَاةِ إِنَّمَا حَقُّهُ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَىْءِ كَالَّذِي هَرَبَ عَنْهُ الْكُفَّارُ مِنْ مَالٍ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالِهِمْ.
شخص دفع الزكاة ورجع فيها، ما الحكم؟
تَعَوَّدَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْدَ دَفْعِ الزَّكَاةِ أَنْ يَسْتَرِدُّوهَا بِشِرَائِهَا بِثَمَنٍ قَلِيلٍ مِنَ الَّذِي دَفَعُوهَا لَهُ وَهَذَا عَمَلٌ قَبِيحٌ لا يَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ أَنْ يُعِيدَ زَكَاتَهُ أَوْ صَدَقَتَهُ الَّتِي فِيهَا تَطَوُّعٌ لا بِشِرَاءٍ وَلا بِغَيْرِ شِرَاءٍ هَذَا عَمَلٌ خَبِيثٌ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «أَنَّ الَّذِي يَعُودُ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ». فَالَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ يَكُونُ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي يَعُودُ بِزَكَاةِ مَالِهِ بَعْدَمَا دَفَعَهَا، وَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سَاقَهَمْ إِلَى ذَلِكَ حُبُّ التَّنَعُّمِ فَيُقَالُ لَهُمُ الَّذِي يَدْفَعُ زَكَاةَ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَنْ يُبَارِكَ اللَّهُ لَهُ فِي مَالِهِ وَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلِأَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ عَنْهُ بَلايَا كَبِيرَةً لَوْ نَزَلَتْ بِهِ لَصَرَفَ أَضْعَافَ أَضْعَافِ هَذَا الْمَالِ الَّذِي أَرَادَ اسْتِرْدَادَهُ، بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ تِلْكَ الْحِيلَةَ لِيَسْتَرِدَّ مَالَهُ الَّذِي دَفَعَهُ تَذْهَبُ الْبَرَكَةُ مِنْ مَالِهِ.
الخاتمة
عَلَى العَبدِ أَن يَتَّقِيَ اللهَ خَالِقَهُ وَلَا يُفتِيَ بِغَيرِ عِلمٍ، كَم مِن فَتَاوَى ضَالَّةٍ مِثلِ هَذِهِ نَشَرَهَا أُنَاسٌ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ بِسَبَبِ الفَتوَى بِغَيرِ عِلمٍ، أَو بِسَبَبِ أَنَّ هَذِهِ الفَتوَى جَاءَت مُوَافِقَةً لِهَوَاهُم وَبِدَعِهِم، أَو بِسَبَبِ طَمَعِهِم فِي عُلقَةٍ مِنَ الدُّنيَا تَأتِيهِم بِسَبَبِ مِثلِ هَذِهِ الفَتَاوَى، فَليَتَّقِ اللهَ امرُؤٌ أَيقَنَ أَنَّهُ مَيِّتٌ وَمَوقُوفٌ وَمَسؤُولٌ عَن أَفعَالِهِ وَأَقوَالِهِ.
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
المصادر
هَذِهِ المَسَائِلُ مَجمُوعَةٌ وَمُلَخَّصَةٌ مِنَ:
- القُرءَانِ الكَرِيمِ.
- السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.
- صَحِيحِ البُخَارِيِّ.
- سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ.
- السُّنَنِ الكُبرَى لِلبَيهَقِيِّ.
- فَتحِ الوَهَّابِ بِشَرحِ مَنهَجِ الطُّلَّابِ لِلشَّيخِ زَكَرِيَّا الأَنصَارِيِّ.
- رَوضَةِ الطَّالِبِينَ وَعُمدَةِ المُفتِينَ لِلإِمَامِ النَّوَوِيِّ.
- حَوَاشِي الرَّوضَةِ لِلإِمَامِ البُلقِينِيِّ.
- مُغنِي المُحتَاجِ لِلخَطِيبِ الشِّربِينِيِّ.
- المَبسُوطِ لِلسَّرَخسِيِّ الحَنَفِيِّ.
- حَاشِيَةِ ابنِ عَابِدِينَ لِابنِ عَابِدِينَ الحَنَفِيِّ.