المحتويات
- مقدمة: الإسلام دين الأنبياء وثباته عبر الزمن
- منهج الإصلاح النبوي وأثره على الأمة
- التحديات والصعوبات التي واجهت مسيرة الدعوة النبوية
- ظهور الفتن في عهد الصحابة وما بعدها
- فتن فساد العقيدة: التحذير من الشبهات والمذاهب الفاسدة
- التمسك بمنهج أهل السنة والجماعة والوقاية من الفتن
- التمكن في التوحيد ونشره دأب العلماء من السلف والخلف
- دور أئمة أهل السنة والجماعة في حفظ العقيدة
- خاتمة
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعدُ:
مقدمة: الإسلام دين الأنبياء وثباته عبر الزمن
أَرسَلَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ كَبَاقِي إِخوَانِهِ الأَنبِيَاءِ بِدِينٍ وَاحِدٍ، هُوَ دِينُ الإِسلَامِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسلَامُ﴾، [سورة آل عمران:19]، وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى النَّجَاةَ يَومَ القِيَامَةِ مِنَ الخُلُودِ الأَبَدِيِّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ لِمَن يَثبُتُ عَلَى هَذَا الدِّينِ، فَفِي الصَّحِيحَينِ مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَن مَاتَ عَلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَينِ أَيضًا: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَن قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَبتَغِي بِذَلِكَ وَجهَ اللهِ».
المُرَادُ: مَن مَاتَ عَلَى شَهَادَةِ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَهُوَ يَعتَقِدُ مَعنَاهَا، هَذَا فِيهِ بَيَانٌ لِمَن يَنجُو مِنَ الخُلُودِ الأَبَدِيِّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، الشَّخصُ وَإِن عَصَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَوَقَعَ فِي شَيءٍ مِنَ الذُّنُوبِ، مَا دَامَ مَاتَ عَلَى أَصلِ الإِيمَانِ وَالتَّوحِيدِ، عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَهُوَ نَاجٍ يَومَ القِيَامَةِ مِنَ الخُلُودِ الأَبَدِيِّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَقَد جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَأَلَ الرَّسُولَ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِن زَنَى وَإِن سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِن زَنَى وَإِن سَرَقَ» ثَلَاثًا، وَفِيهِ بِشَارَةٌ بِالثَّبَاتِ عَلَى دِينِ الإِسلَامِ الَّذِي قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسلَامُ﴾، [سورة آل عمران:19].
منهج الإصلاح النبوي وأثره على الأمة
لَمَّا أُرسِلَ الرَّسُولُ ﷺ بِدِينِ الإِسلَامِ كَانَ الكُفرُ قَد أَطبَقَ عَلَى وَجهِ الأَرضِ، وَلَم يَكُن عَلَى وَجهِ الأَرضِ مُسلِمٌ غَيرُهُ ﷺ، كَانَ النَّاسُ فِي جَاهِلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ قَبلَ بِعثَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَقَلَبَ مُحَمَّدٌ ﷺ مَسَارَ التَّارِيخِ، وَنَقَلَ هَؤُلَاءِ النَّاسَ مِن أَخَسِّ الدَّرَكَاتِ إِلَى أَعَالِي المَقَامَاتِ، فَصَارَ مِنهُم صَحَابَةٌ وَصَالِحُونَ، وَنَقَلُوا هَذَا الدِّينَ لِلأَجيَالِ الَّتِي بَعدَهُم.
فَمَنهَجُ نَبِيِّنَا ﷺ فِي الإِصلَاحِ لَو طُبِّقَ عَلَى كُلِّ زَمَنٍ مِنَ الأَزمَانِ لَمَا وُجِدَت مَا يُسَمَّى بِالمَشَاكِلِ الِاقتِصَادِيَّةِ أَوِ الِاجتِمَاعِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ أَو غَيرِهَا مِنَ المَشَاكِلِ، وَلَو قُلتَ إِنَّ الأَمرَ سَيِّءٌ وَالفَسَادَ قَدِ انتَشَرَ فَلَن يَكُونَ الفَسَادُ مُنتَشِرًا كَمَا كَانَ قَبلَ بِعثَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فِي تِلكَ الفَترَةِ كَانَ الكُفرُ مُطبِقًا عَلَى وَجهِ الأَرضِ، وَالفَسَادُ مُطبِقًا عَلَى وَجهِ الأَرضِ، فَأَصلَحَ النَّبِيُّ ﷺ بِثَبَاتِهِ عَلَى قَوَاعِدَ مُعَيَّنَةٍ وَعَلَى أُمُورٍ فِي دِينِهِ ﷺ هَذَا الحَالَ، وَبَعدَ وَفَاتِهِ ﷺ بِأَقَلَّ مِن رُبعِ قَرنٍ وَصَلَ النَّاسُ إِلَى أَقصَى المَغرِبِ وَإِلَى أَقصَى المَشرِقِ.
التحديات والصعوبات التي واجهت مسيرة الدعوة النبوية
بَعدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ ﷺ بِنَحوِ ثَمَانِينَ سَنَةً وَصَلَ النَّاسُ مِن صَحَابَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَمِن تَابِعِيهِم إِلَى الصِّينِ شَرقًا وَإِلَى الأَندَلُسِ غَربًا، أَدخَلُوا فِيهَا دِينَ الإِسلَامِ وَأَذَلُّوا مُلُوكَ الكُفرِ، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدٌ إِلَى حَالِ النَّبِيِّ ﷺ فَإِنَّهُ يَعلَمُ تَمَامًا أَنَّ الصَّلَاحَ وَالإِصلَاحَ وَالنَّجَاةَ فِي اتِّبَاعِ المَنهَجِ النَّبَوِيِّ، مَنهَجِ النَّبِيِّ ﷺ.
- كَيفَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعمَلُ بِالإِصلَاحِ؟ وَمَا حَالُ النَّاسِ؟
- وَهَل وَاجَهَ النَّبِيُّ ﷺ صُعُوبَاتٍ عِندَمَا نَشَرَ هَذَا الدِّينَ؟
- هَل وَاجَهَ صُعُوبَاتٍ فِي الإِصلَاحِ؟
نَعَم، وَاجَهَ صُعُوبَاتٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَت تَجرِي عَلَى يَدَيهِ المُعجِزَاتُ، فَهُوَ لَيسَ أَيَّ إِنسَانٍ، هُوَ لَيسَ أَيَّ نَبِيٍّ، هُوَ أَعظَمُ خَلقِ اللهِ ﷺ وَأَفضَلُهُم، وَمَعَ ذَلِكَ حُورِبَ ﷺ وَافتُرِيَ عَلَيهِ وَحَاوَلُوا إِبعَادَهُ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي جَاءَ بِهَا ﷺ، فكَانَ مَوقِفُهُ ﷺ الثَّبَاتَ عَلَى تَعَالِيمِ القُرآنِ وَمَا يُوحَى إِلَيهِ ﷺ.
وَإِنَّ مِن أَوَائِلِ الأَحَادِيثِ الَّتِي نَقَلَها الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ وَرَقَةَ بنِ نَوفَلٍ فِي أَوَّلِ كِتَابٍ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ وَهُوَ كِتَابُ بَدءِ الوَحيِ، هُوَ أَوَّلُ مَا جَرَى بَينَ الرَّسُولِ ﷺ وَخَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا وَبَينَ وَرَقَةَ بنِ نُوفَلٍ عِندَمَا أَخبَرَهُ بِمَا يَنزِلُ عَلَيهِ وَيُوحَى بِهِ إِلَيهِ، فَأَخبَرَهُ وَرَقَةُ أَنَّ هَذَا هُوَ جِبرِيلُ الَّذِي نَزَلَ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى وَالأَنبِيَاءِ قَبلَهُ عَلَيهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَالَ وَرَقَةُ لِلرَّسُولِ ﷺ: سَيُخرِجُكَ قَومُكَ، سَيُعَادِيكَ قَومُكَ، سَيَفعَلُونَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ مُتَعَجِّبًا: «أَوَ مُخرِجِيَّ هُم؟»، هَل سَيُخرِجُونَنِي مِن مَكَّةَ وَهُم يَقُولُونَ عَنِّي الصَّادِقُ الأَمِينُ؟، لِأَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ انعِدَامِ الصِّدقِ وَانعِدَامِ الأَمَانَةِ بَينَ أَغلَبِ النَّاسِ، فَإِذَا جَاءَهُم بِهَذَا الحَقِّ الَّذِي هُوَ دِينُ الإِسلَامِ فَالمُتَوَقَّعُ أَنَّهُم سَيَقبَلُونَهُ مِنهُ لِأَنَّهُم يَعرِفُونَهُ صَادِقًا أَمِينًا، فَالأَصلُ إِذَا جَاءَهُم صَادِقٌ أَمِينٌ بِهَذَا الحَقِّ أَن يَزدَادُوا ثَبَاتًا عَلَى حَقِّيَّةِ هَذَا الدِّينِ فَيَثبُتُوا عَلَى مَا أَخبَرَهُم بِهِ الصَّادِقُ الأَمِينُ، وَيَزدَادَ الأَمرُ تَأكِيدًا إِذَا عَلِمتَ أَنَّ المُعجِزَاتِ سَتَجرِي عَلَى يَدَيهِ فِي إِثبَاتِ صِدقِ كَلَامِهِ وَحَقِّيَّةِ مَنهَجِهِ، فَقَالَ وَرَقَةُ: لَا، لَيسَ هَذَا هُوَ الحَالَ، سَيُخرِجُونَكَ، سَيُعَادُونَكَ، سَيَضرِبُونَكَ، سَيُقَاتِلُونَكَ، «لَم يَأتِ أَحَدٌ بِمِثلِ مَا أَتَيتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ»، وَهَذِهِ تَصلُحُ أَن تَكُونَ نِبرَاسًا وَشِعَارًا لِكُلِّ وَاحِدٍ يَمشِي عَلَى نَهجِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَعدَهُ، وَسَطَّرَهَا البُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ: «لَم يَأتِ أَحَدٌ بِمِثلِ مَا أَتَيتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا عُودِيَ» وَلَم يَقُل لَهُ فَقَط فِي زَمَانِكَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ أَقَرَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ، وَلَم يُعَارِضْهُ، فَعُودِيَ ﷺ وَأُوذِيَ وَضُرِبَ وَأُخرِجَ مِن بَلَدِهِ ﷺ، وَمَا خَرَجَ إِلَّا تَنفِيذًا لِأَمرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَمِن أَمثِلَةِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسلِمٍ مِن أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي عِندَ الكَعبَةِ فَجَاءَ الخَبِيثُ اللَّعِينُ عَدُوُّ اللهِ، فِرعَونُ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَبُو جَهلٍ لَعَنَهُ اللهُ وَكَانُوا قَد ذَبَحُوا جَزُورًا (جَمَلًا)، فَجَاءَ بِسَلَا الجَزُورِ (أَمعَاءِ الجَمَلِ) وَالنَّبِيُّ ﷺ سَاجِدٌ عِندَ الكَعبَةِ وَوَضَعَهَا عَلَى رَأسِ الرَّسُولِ ﷺ وَهُوَ أَعظَمُ الرُّؤُوسِ، وَأَشرَفُ الخَلقِ، وَأَعلَى النَّاسِ مَنزِلَةً، وَمَعَ ذَلِكَ وَضَعَهَا عَلَى رَأسِهِ الشَّرِيفِ ﷺ، فَجَاءَت فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا تُزِيلُ هَذَا الأَذَى عَنِ الرَّسُولِ وَهِيَ تَبكِي، فَقَالَ لَهَا: «يَا بُنَيَّتِي، لَا تَبكِي، فَإِنَّ اللهَ مَانِعٌ أَبَاكِ»، يَعنِي أَنَّ اللهَ سَيَحفَظُهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ مُوقِنًا بِحَقِّيَّةِ هَذَا الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ﷺ وَبِتَمكِينِ اللهِ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.
وَهَذَا الخَبِيثُ عُقبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ مَعَ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ وَكَانَا صَدِيقَينِ خَلِيلَينِ، فَقَالَ لَهُ عُقبَةُ: رَأسِي مِن رَأسِكَ حَرَامٌ (يَعنِي لَا أَعرِفُكَ وَلَا تَعرِفُنِي) إِلَّا أَن تَبصُقَ فِي وَجهِ مُحَمَّدٍ، فَفَعَلَ الخَبِيثُ ذَلِكَ لَعَنَهُ اللهُ، وَنَزَلَت فِيهِمُ الآيَاتُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾، وَكِلَاهُمَا مَاتَا عَلَى الكُفرِ، لَعَنَهُمَا اللهُ تَعَالَى.
وَمَسِيرَةُ الدَّعوَةِ المُحَمَّدِيَّةِ تُؤَكِّدُ لَنَا أَنَّ اللهَ لَم يَجعَلْهَا مُنقَطِعَةً بِمَوتِ مُحَمَّدٍ ﷺ، إِنَّمَا هِيَ مُستَمِرَّةٌ عَبْرَ الزَّمَنِ، وَإِنِ اختَلَفَ الشَّخصُ وَالأَسمَاءُ، فَمَن يَمشِي عَلَى نَهْجِ الرَّسُولِ ﷺ وَيَمضِي عَبرَ الزَّمَنِ يَعلَمُ أَنَّ مَن يَسِيرُ عَلَى سِيرَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ سَيُعَادَى، إِذَا استَطَاعَ أَعدَاءُ الدِّينِ قَتلَهُ سَيَقتُلُونَهُ، وَإِذَا مَا استَطَاعُوا سَيُحَذِّرُونَ مِنهُ وَيَفتَرُونَ وَيَكذِبُونَ عَلَيهِ، لِأَنَّهُ «لَم يَأتِ أَحَدٌ بِمِثلِ مَا أَتَيتَ بِهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا عُودِيَ».
ظهور الفتن في عهد الصحابة وما بعدها
بَعدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ ﷺ أَصلَحَ أَبُو بَكرٍ خَلَلًا كَبِيرًا، وَهُوَ وَإِن لَم يَكُن يَستَطِيعُ أَن يُغَطِّيَ مَكَانَ النَّبِيِّ ﷺ مِن كُلِّ الوُجُوهِ إِلَّا أَنَّهُ أَصلَحَ كَثِيرًا، فَلَا أَحَدَ مِن خَلقِ اللهِ يُغَطِّي مَكَانَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِن كُلِّ الوُجُوهِ، وَبَعدَهُ جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا، ثُمَّ جَاءَ عُثمَانُ، وَفِي زَمَنِ عُثمَانَ انفَتَحَ بَابُ الفِتَنِ عَلَى النَّاسِ وَكَانَت بِدَايَةُ انتِشَارِ الفِتَنِ فِي الأُمَّةِ الإِسلَامِيَّةِ، وَمَا زَالَت مَفتُوحَةً إِلَى أَيَّامِنَا هَذِهِ، وَأَدَّت إِلَى قَتلِ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عُثمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَعَ أَنَّهُ أَفضَلُ رَجُلٍ بَعدَ الأَنبِيَاءِ وَبَعدَ أَبِي بَكرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ، وَزَادَتِ الفِتَنُ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَأَدَّت كَذَلِكَ إِلَى قَتلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ الَّذِي هُوَ بَعدَ عُثمَانَ فِي الفَضلِ، وَفِي زَمَانِهِ ظَهَرَت وَانتَشَرَتِ الفِرَقُ الفَاسِدَةُ الشَّاذَّةُ فِي الأُمَّةِ الإِسلَامِيَّةِ.
وَالَّذِي حَصَلَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُثمَانَ بنِ عَفَّانَ وَخِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا فِتَنٌ كَثِيرَةٌ كَبِيرَةٌ اشتَبَهَت عَلَى النَّاسِ فَهَلَكَ فِيهَا مَن هَلَكَ.
مَا مَعنَى الفِتنَة؟
الفِتنَةُ لَهَا مَعَانٍ كَثِيرَةٌ فِي لُغَةِ العَرَبِ. أَصلُ كَلِمَةِ “الفِتنَةِ” هُوَ “الِاختِبَارُ”. يُقَالُ: فَتَنْتُ شَيئًا، أَيِ اختَبَرتُهُ. كَانَ العَرَبُ قَدِيمًا عِندَهُمْ حَجَرٌ، يَختَبِرُونَ هَذَا الحَجَرَ: هَل هُوَ قَاسٍ أَم لَا؟ هَل هُوَ لَينٌ أَم شَدِيدٌ؟ هَل يَصلُحُ لِلضَّربِ أَو لِلقِتَالِ أَم لَا؟ كَانُوا يَستَخدِمُونَهُ فِي القِتَالِ وَغَيرِهِ. فَمَاذَا يَفعَلُونَ بِهَذَا الحَجَرِ؟ يُشعِلُونَ النَّارَ وَيَرمُونَ الحَجَرَ فِيهَا. فَيُقَالُ فِي لُغَةِ العَرَبِ: “فَتَنتُ الحَجَرَ”. مَا مَعنَى “فَتَنتُهُ”؟ اختَبَرتُهُ، هَل هُوَ صُلْبٌ أَم لَا؟ هَل ذَابَ أَوِ انفَجَرَ مَعَ النَّارِ؟ أَم بَقِيَ صُلبًا شَدِيدًا يُمكِنُ استِخدَامُهُ؟ هَذَا هُوَ أَصلُ كَلِمَةِ الفِتنَةِ: “الِاختِبَارُ”.
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ»، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، نَسأَلُ اللهَ أَن يُجَنِّبَنَا الفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ.
فتن فساد العقيدة: التحذير من الشبهات والمذاهب الفاسدة
انتَشَرَت فِي الأُمَّةِ الإِسلَامِيَّةِ فِتنَةُ فَسَادِ المُعتَقَدِ، وَهِيَ فِتنَةٌ لَا يُدرِكُهَا أَيُّ شَخصٍ بِسُهُولَةٍ، وَهِيَ أَن يَأتِيَ شَخصٌ بِعَقَائِدَ فَاسِدَةٍ، وَبِأَفكَارٍ مُخَالِفَةٍ لِلعَقِيدَةِ، ثُمَّ يَنشُرُهَا بَينَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ لَا يُمَيِّزُونَهَا بِسَبَبِ ضَعفِهِم فِي العِلمِ.
الشَّخصُ عَادَةً يَستَطِيعُ أَن يُمَيِّزَ أَنَّ هَذَا يَهُودِيٌّ، وَهَذَا عَابِدٌ لِلشَّمسِ، وَهَذَا عَابِدٌ لِلنَّارِ، وَهَذَا مُسلِمٌ فَإِنَّ هَذَا أَمرٌ بَيِّنٌ، أَمَّا مَا هُوَ أَدَقُّ مِن ذَلِكَ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ العُلَمَاءُ “الشُّبهَةَ” وَهِيَ أَمرٌ شَبِيهٌ بِالدَّلِيلِ يَشتَبِهُ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، هَذِهِ الشُّبَهُ انتَشَرَت فِي الأُمَّةِ الإِسلَامِيَّةِ، يُلقِيهَا أَعدَاءُ الدِّينِ لِيُرَوِّجُوا بِضَاعَتَهُمُ الفَاسِدَةَ، يَأتُونَ بِعِبَارَاتٍ قَد تَشتَبِهُ عَلَى البَعضِ، قَد يَظُنُّهَا البَعضُ حَقًّا وَهِيَ لَيسَت حَقًّا.
وَمِن أَمثِلَةِ ذَلِكَ مَا حَصَلَ عِندَمَا أَمَرَ اللهُ المَلَائِكَةَ وَإِبلِيسَ أَن يَسجُدُوا لِآدَمَ، فَاعتَرَضَ إِبلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ وَمَا قَبِلَ أَن يَسجُدَ وَكَفَرَ بِاللهِ، وَأَلقَى لِذَلِكَ شُبهَةً وَهُوَ أَنَّهُ خَيرٌ مِنهُ خَلَقَ اللهُ إِبلِيسَ مِن نَارٍ وَخَلَقَ آدَمَ مِن طِينٍ، فَهَذِهِ شُبهَةٌ أَلقَاهَا إِبلِيسُ لِيُرَوِّجَ لِفَسَادِهِ، وَهَذِهِ الشُّبهَةُ نُمَيِّزُهَا نَحنُ، لَكِن بَعضُ النَّاسِ انطَوَت عَلَيهِمُ الحِيلَةُ وَعَبَدُوا الشَّيطَانَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ فَأَخَذُوا هَذِهِ الكَلِمَةَ وَنَشَرُوهَا يَقُولُونَ النَّارُ خَيرٌ مِنَ الطِّينِ وَهَذَا كَذِبٌ، فَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا شُبهَةَ إِبلِيسَ وَنَشَرُوهَا وَرَوَّجُوا لِبِضَاعَتِهِمُ الفَاسِدَةِ، هَذَا هُوَ مَعنَى الشُّبهَةِ، وَيُوجَدُ أَمثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الأُمَّةِ الإِسلَامِيَّةِ وَهُنَاكَ أُنَاسٌ يَعتَقِدُونَهَا وَهِيَ عِندَهُم شَيءٌ رَاسِخٌ تَمَامًا، وَمَا أُرِيدُ التَّركِيزَ عَلَيهِ هُوَ أَنَّ هُنَاكَ أُنَاسًا حَارَبُوا دِينَ الرَّسُولِ ﷺ وَأَطلَقُوا لِلنَّاسِ شُبَهًا مِثلَ هَذِهِ وَغَيرِهَا وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى.
التمسك بمنهج أهل السنة والجماعة والوقاية من الفتن
عِندَمَا كَانَت هَذِهِ الشُّبَهُ قَد تَشتَبِهُ عَلَى ضِعَافِ العِلمِ فَيَظُنُّهَا حَقًّا، لِذَلِكَ فَإِنَّ طَرِيقَ النَّجَاةِ مِن هَذِهِ الفِتَنِ وَالشُّبُهَاتِ بِالعِلمِ، فَالَّذِينَ ادَّعَوُا النُّبُوَّةَ لَهُم شُبُهَاتٌ، وَالَّذِينَ كَفَّرُوا الصَّحَابَةَ لَهُم شُبُهَاتٌ، وَاليَهُودُ لَهُم شُبُهَاتٌ، وَالمُجَسِّمَةُ لَهُم شُبُهَاتٌ، وَأَهلُ الوَحدَةِ المُطلَقَةِ وَالحُلُولِ لَهُم شُبُهَاتٌ، وَالخَوَارِجُ لَهُم شُبُهَاتٌ، وَالمُعتَزِلَةُ لَهُم شُبُهَاتٌ، وَوَظِيفَةُ الأَنبِيَاءِ وَأَهلِ العِلمِ وَمَن نَهَجَ نَهجَهُم هِيَ: حَلُّ هَذِهِ الفِتَنِ وَتَحذِيرُ النَّاسِ مِن هَذِهِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي قَد تَشتَبِهُ عَلَيهِم وَهِيَ وَظِيفَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، فَقَد كَانَ عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ تَرجُمَانُ القُرآنِ ابنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ المَعرُوفُ بِعِلمِهِ يَقُولُ: «مَا أَظُنُّ رَجُلًا فِي المَشرِقِ وَلَا فِي المَغرِبِ يُحِبُّ الشَّيطَانُ مَوتَهُ أَكثَرَ مِنِّي»، لِمَاذَا؟ قَالَ: «يُحْدِثُ إِبلِيسُ فِتنَةً فِي المَشرِقِ أَو فِي المَغرِبِ، فَيَحمِلُهَا النَّاسُ إِلَيَّ، فَأَحُلُّهَا، فَأُغْلِقُ عَلَى الشَّيطَانِ مَدَاخِلَ الفِتنَةِ» هَذِهِ هِيَ وَظِيفَةُ أَهلِ العِلمِ.
وَقَد يَقُولُ بَعضُ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا: “أَنَا مُشَوَّشٌ، لَا أَعرِفُ الحَقَّ مِنَ البَاطِلِ، كُلُّ شَخصٍ يَقُولُ شَيئًا مُختَلِفًا”. لِمَاذَا؟ لِأَنَّ هَذَا الشَّخصَ بِضَاعَتُهُ العِلمِيَّةُ قَلِيلَةٌ، فَتَكُونُ هَذِهِ هِيَ النَّتِيجَةَ، أَمَّا لَو كَانَ رَاسِخًا فِي العِلمِ، فَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي وَصفِهِ: ﴿وَمَا يَعقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ﴾، [سورة العنكبوت: 43]، العَالِمُ هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ، وَهُوَ الَّذِي يَحُلُّ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ، فَالحَلُّ هُوَ بِطَلَبِ العِلمِ، وَاللهُ مَا تَرَكَنَا بِدُونِ شَيءٍ نَستَنِدُ عَلَيهِ بَل وَضَعَ الدَّلِيلَ عَلَى الحَقِّ، فَعَلَى الشَّخصِ أَن يَتَّبِعَ الدَّلِيلَ الصَّحِيحَ وَيَنتَبِهَ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَلَيسَ أَيُّ شَخصٍ يَستَطِيعُ أَن يَحُلَّ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ، أَهلُ العِلمِ وَالمُوَفَّقُونَ مَن يَستَطِيعُونَ حَلَّهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ﴾.
وَإِذَا حَلَّ أَهلُ العِلمِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ، هَل سَيَسْكُتُ شَيَاطِينُ الجِنِّ وَالإِنسِ؟ هَل سَيَقُولُونَ: “خَلَاص، فَشِلنَا وَانتَهَى دَورُنَا”؟ لَا، سَيُحَاوِلُونَ مُعَادَاةَ أَهلِ العِلمِ، وَسَيُحَاوِلُونَ إِطلَاقَ شُبُهَاتٍ أُخرَى قَد لَا تَصِلُ إِلَى بَعضِ أَهلِ العِلمِ، فَيُغْوُونَ بِهَا النَّاسَ، هَذِهِ هِيَ المُعَادَلَةُ الَّتِي أُلَخِّصُهَا لَكُمُ الآنَ، وَهَذَا مَا يَجرِي حَولَكُم فِي كُلِّ الأَزمَانِ، مِن زَمَنِ الأَنبِيَاءِ قَبلَ زَمَنِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَزَمَنِ أَصحَابِهِ إِلَى يَومِنَا هَذَا.
فَبَعدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ ﷺ وَفِي آخِرِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ ظَهَرَت طَوَائِفُ فِي الأُمَّةِ الإِسلَامِيَّةِ خَالَفَتِ العَقِيدَةَ وَنَشَرَتِ الفَسَادَ وَالفِتَنَ وَالشُّبُهَاتِ، وَقَد أَوصَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا ظَهَرَتِ الفِتَنُ فَقَالَ: «مَن رَأَى مِنكُم مُنكَرًا فَليُغَيِّرهُ بِيَدِهِ، فَإِن لَم يَستَطِع فَبِلِسَانِهِ، فَإِن لَم يَستَطِع فَبِقَلبِهِ، وَذَلِكَ أَضعَفُ الإِيمَانِ»، رَوَاهُ مُسلِمٌ، فَكَانَ أَهلُ العِلمِ يَتَعَلَّمُونَ وَيُحَذِّرُونَ وَيَنهَونَ النَّاسَ عَن هَذِهِ المُنكَرَاتِ، وَيَنشُرُونَ العِلمَ وَالمَعرُوفَ بَينَ النَّاسِ، وَلَكِن بِالمُقَابِلِ نَذكُرُ قَولَ وَرَقَةَ بنِ نَوفَلٍ: «لَم يَأتِ أَحَدٌ بِمِثلِ مَا أَتَيتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ»، هَذَا يَعنِي أَنَّ أَهلَ الحَقِّ عُودُوا، قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ يَنبَغِي أَن نُرَكِّزَ عَلَيهَا جَمِيعًا، وَهَذَا هُوَ حَالُ الأُمَّةِ الإِسلَامِيَّةِ عَبْرَ الزَّمَنِ.
ثُمَّ إِنَّ مِن أَشهَرِ العُلَمَاءِ بَعدَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مَرُّوا عَلَى تَارِيخِ الإِسلَامِ الأَئِمَّةَ الأَربَعَةَ، وَهُم مِن أَعلَامِ الإِسلَامِ، أَوَّلُهُم زَمَانًا وَأَقرَبُهُم إِلَى عَصرِ الصَّحَابَةِ هُوَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، ثُمَّ الإِمَامُ مَالِكٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، ثُمَّ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، ثُمَّ الإِمَامُ أَحمَدُ بنُ حَنبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، بَعدَ هَؤُلَاءِ جَاءَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ، وَبَعدَهُ الإِمَامُ مُسلِمٌ، وَهَؤُلَاءِ العُلَمَاءُ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى نَهجِ الرَّسُولِ ﷺ.
فَأَبُو حَنِيفَةَ رَغمَ أَنَّهُ كَانَ إِمَامًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَترُكُ شُغُلَهُ وَسُوقَهُ وَمَسجِدَهُ وَطُلَّابَهُ وَيُسَافِرُ لِرَدِّ الفِتَنِ، وَقَد سَافَرَ أَكثَرَ مِن عِشرِينَ مَرَّةً مِنَ الكُوفَةِ إِلَى أَنحَاءِ العِرَاقِ وَالبِلَادِ الإِسلَامِيَّةِ لِلرَّدِّ عَلَى أَهلِ البِدَعِ وَالضَّلَالِ وَمُنَاظَرَتِهِم.
سَفَرُهُم مَا كَانَ مُرِيحًا كَمَا هُوَ الآنَ بِالسَّيَّارَةِ أَوِ القِطَارِ أَوِ الطَّائِرَةِ بَل كَانَ مَشيًا عَلَى الأَقدَامِ أَو رُكُوبًا عَلَى دَابَّةٍ، وَقَد يَغِيبُ عَن أَهلِهِ لِأَوقَاتٍ طَوِيلَةٍ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُحَذِّرُ مِن بَعضِ الأَشخَاصِ الَّذِينَ خَالَفُوا المُعتَقَدَ، وَمِنْ أَشهَرِ مَن رَدَّ عَلَيهِم أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ جَهمُ بنُ صَفوَانَ الَّذِي كَانَ مِن أَكثَرِ النَّاسِ كُفرًا، كَانَ يَقُولُ إِنَّ اللهَ تَعَالَى مُتَّحِدٌ مَعَ العَالَمِ، وَإِنَّ اللهَ وَالعَالَمَ شَيءٌ وَاحِدٌ، وَكَانَ يَقُولُ عَن كُلِّ شَيءٍ حَتَّى الهَوَاءِ: هَذَا هُوَ اللهُ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ، فَهَذَا الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ كُلِّ دِفَاعِهِ عَنِ العَقِيدَةِ وَتَآلِيفِهِ فِيهَا، وَثَبَاتِهِ وَرَدِّهِ عَلَى أَهلِ البِدَعِ كَانَ يُضرَبُ وَيُسجَنُ وَيُجلَدُ، حَتَّى حَاوَلَت بَعضُ الفِرَقِ قَتلَهُ، لَكِنَّ اللهَ نَجَّاهُ.
وَالإِمَامُ مَالِكٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ جَعَلَ اللهُ لَهُ هَيبَةً عَجِيبَةً، وَكَانَ الخُلَفَاءُ يَستَأذِنُونَ لِدُخُولِ بَيتِهِ وَالجُلُوسِ فِي مَجلِسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ جُلِدَ وَحُذِّرَ مِنهُ وَحُمِلَ عَلَى حِمَارٍ يُحَذَّرُ مِنهُ بِسَبَبِ ثَبَاتِهِ عَلَى الحَقِّ فِي مَسأَلَةٍ فِقهِيَّةٍ، وَفِي آخِرِ حَيَاتِهِ خُلِعَت يَدُهُ بِسَبَبِ كَثرَةِ الجَلدِ، وَأُصِيبَ بِسَلَسِ البَولِ، وَلَم يَكُن يَستَطِيعُ رَفعَ يَدِهِ فِي الصَّلَاةِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الإِصَابَاتِ.
وَالإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَيضًا حُمِلَ مِنَ اليَمَنِ إِلَى بَغدَادَ مَسجُونًا، وَوُضِعَ فِي سِجنٍ خَاصٍّ، وَحُمِلَ عَلَى البَعِيرِ وَالحَمِيرِ، وَجُلِدَ، وَرُمِيَ فِي سِجنِ الرَّشِيدِ، وَاتُّهِمَ مَرَّةً بِأَنَّهُ مِنْ فِرْقَةِ الرَّوَافِضِ وَمَرَّةً بِأَنَّهُ مِنَ الخَوَارِجِ.
وَأَمَّا الإِمَامُ أَحمَدُ بنُ حَنبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَقَد جُلِدَ نَحوًا مِنْ ثَلَاثِينَ شَهرًا كَمَا رَوَى أَبُو نُعَيمٍ وَغَيرُهُ، تَنَاوَبَ عَلَيهِ أَكثَرُ مِن مِائَةِ جَلَّادٍ، وَفِي بَعضِ اللَّيَالِي كَانَ يُجلَدُ مِن عِدَّةِ جَلَّادِينَ، استَمَرَّ هَذَا البَلَاءُ مَا يُقَارِبُ الثَّلَاثَ سَنَوَاتٍ، هَذَا هُوَ الإِمَامُ أَحمَدُ بنُ حَنبَلٍ الَّذِي ذُكِرَت فِيهِ العِبَارَةُ الَّتِي أُذَكِّرُ بِهَا: «لَم يَأتِ أَحَدٌ بِمِثلِ مَا أَتَيتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ».
فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ عِلمَ الأَئِمَّةِ الأَربَعَةِ جَاءَ بِسُهُولَةٍ وَيُسرٍ مِنْ كُلِّ الوُجُوهِ، أَو أَنَّ تَألِيفَ الإِمَامِ أَحمَدَ لِمُسنَدِهِ كَانَ بِمُجَرَّدِ “ضَغطَةِ زِرٍّ”، أَو أَنَّهُم كَانُوا مُرتَاحِينَ مُنَعَّمِينَ يَنَامُونَ اللَّيلَ كُلَّهُ، وَلَا أَنَّهُم كَانُوا يَتَتَبَّعُونَ الشَّهَوَاتِ وَمَلَذَّاتِ الدُّنيَا، لَا، لَم يَكُنِ الأَمرُ هَكَذَا، بَل جَاءَ هَذَا العِلمُ بَعدَ تَعَبٍ كَبِيرٍ.
وَكَانَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ تِلمِيذَ الإِمَامِ أَحمَدَ، وَمَا نَعرِفُهُ عَنِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ هُوَ أَنَّهُ مُؤَلِّفُ “صَحِيحِ البُخَارِيِّ”، وَلَكِن هَل تَعلَمُونَ أَنَّ الإِمَامَ البُخَارِيَّ كَانَ يُطرَدُ مِن بَعضِ البِلَادِ بِسَبَبِ مُنَاظَرَاتِهِ مَعَ بَعضِ الفِرَقِ الفَاسِدَةِ؟ طُرِدَ مِن عِدَّةِ بِلَادٍ، وَاشتَدَّت عَلَيهِ الفِتَنُ وَالبَلَاءُ، وَفِي آخِرِ أَيَّامِهِ دَعَا اللهَ فِي رَمَضَانَ قَائِلًا: “اللهم اقبِضنِي إِلَيكَ غَيرَ مَفتُونٍ وَلَا ضَائِعٍ وَلَا مُضَيِّعٍ”، وَفِي العَشرِ الأَوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ فِي لَيلَةِ عِيدِ الفِطرِ تُوُفِّيَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَاستَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.
«لَم يَأتِ أَحَدٌ بِمِثلِ مَا أَتَيتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ»، وَهَذَا هُوَ حَالُ الأُمَّةِ الإِسلَامِيَّةِ عَبرَ الزَّمَنِ، وَالأَمرُ فِي زَمَانِنَا لَيسَ مُختَلِفًا بَل هُوَ أَكثَرُ وَأَشَدُّ، فَخَطَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَادُونَ أَهلَ الحَقِّ وَأَهلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ خَطَرٌ شَدِيدٌ، فَعِندَمَا يَأتِي يَهُودِيٌّ مَثَلًا وَيَتَكَلَّمُ فِي دِّينِنَا هَل سَنَسمَعُ كَلَامَهُ؟ بِالتَّأكِيدِ لَا، وَلَكِن لَو جَاءَنَا شَخصٌ يَتَزَيَّا بِزِيِّ الإِسلَامِ وَيَتَكَلَّمُ بِعَقَائِدَ فَاسِدَةٍ فَقَد يَنغَرُّ بِهِ بَعضُ النَّاسِ، وَهَذَا هُوَ مَا يَجرِي عَبرَ الزَّمَنِ.
وَقَد رَوَى أَنَسٌ بنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَأتِي زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعدَهُ شَرٌّ مِنهُ»، رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ عِندَ ابنِ مَاجَه أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزدَادُ الأَمرُ إِلَّا شِدَّةً»، وَهَذَا بَعدَ أَن شَكَى إِلَيهِ بَعضُ النَّاسِ وَقَالُوا لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ، زَادَتِ الفِتَنُ، وَهَذَا كَانَ نَحوَ سَنَةِ ثَمَانِينَ لِلهِجرَةِ، فَمَا بَالُكُم فِي زَمَانِنَا بَعدَ أَلفٍ وَأَربَعِمِائَةِ سَنَةٍ تَقرِيبًا؟ مَاذَا تَتَوَقَّعُونَ؟ هَل أَصبَحَ الوَضعُ أَفضَلَ؟ هَل سَيَزدَادُ العَمَلُ بِتَعَالِيمِ الإِسلَامِ؟ هَل سَيَكُونُ عَدَدُ العُلَمَاءِ أَكثَرَ؟ لَا بَل سَيَزدَادُ الأَمرُ سُوءًا وَشِدَّةً، وَالعِيَاذُ بِاللهِ.
التمكن في التوحيد ونشره دأب العلماء من السلف والخلف
إِنْ قِيلَ لَمْ يُنقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَ أَحَدًا مِنَ الصَّحابَةِ هذا العِلمَ وَلَا عَن أَحَدٍ مِن أَصحَابِهِ أَنَّهُ تَعَلَّمَ أَو عَلَّمَ غَيرَهُ، وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذا العِلْمُ بَعدَ انقِرَاضِهِم بِزَمَانٍ، فَلَو كانَ هذا العِلمُ مُهِمًّا في الدِّينِ لكان أَولَى بِهِ الصَّحَابَةُ والتَابِعُونَ.
قُلنَا إِنْ عُنِيَ بِهَذا القَولِ أَنَّهُم لَمْ يَعلَمُوا صِفَاتِ اللهِ وَتَوحِيدَهُ وَتَنزِيهَهُ وَحَقِّيَّةَ رسولِهِ وصِحَّةَ مُعجِزَاتِهِ بِدِلَالَةِ العَقلِ بَلْ أَقَرُّوا بِذلكَ تَقلِيدًا فَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ القَولِ شَنِيعٌ مِنَ الكِلامِ، وَقَد رَدَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ على مَن قَلَّدَ أَبَاهُ في عِبَادَةِ الأَصْنَامِ بِقَولِه: ﴿إِنَّا وَجَدنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُقتَدُونَ﴾، أَي أَنَّ أُولَئِكَ اقْتَدَوا بِآبَائِهِم في إِشرَاكِهِم بِغَيرِ دَلِيلٍ يَقُومُ على صِحَّةِ ذلك الدِّينِ، وَهذا يُفهَمُ مِنهُ أَنَّ عِلمَ الدَّلِيلِ مَطلُوبٌ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ جَوَابًا على القائِلِينَ لِمَ تَتَكَلَّمُونَ بِعِلْمِ الكَلَامِ؟ وَالصَّحَابَةُ لَم يَتَكَلَّمُوا فِيهِ: «إِنَّمَا مَثَلُهُم كَأُنَاسٍ لَيسَ بِحَضرَتِهِم مَن يُقَاتِلُهُم فَلَم يَحتَاجُوا إِلى إِبرَازِ السِّلَاحِ، وَمَثَلُنَا كَأُنَاسٍ بِحَضرَتِهِم مَن يُقَاتِلُهُم فَاحْتَاجُوا إِلى إِبْرَازِ السِّلاحِ».
وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَم يَتَلَفَّظُوا بِهَذِهِ العِبَارَاتِ المُصْطَلَحَةِ عِندَ أَهلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ نَحو الجَوهَرِ وَالعَرَضِ وَالجَائِزِ وَالمُحَالِ وَالحَدَثِ وَالقِدَمِ فَهَذا مُسَلَّمٌ، لَكِنَّنَا نُعَارِضُ هذا بِمِثلِهِ في سَائِرِ العُلُومِ، فَإِنَّهُ لَم يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا عَن أَصحَابِهِ التَّلَفُّظُ بِالنَّاسِخِ وَالمَنسُوخِ وَالمُجمَلِ وَالمُتَشَابِهِ وَغَيرِهَا كَمَا هُوَ المُستَعمَلُ عِندَ أَهلِ التَّفسِيرِ، وَلَا بِالقِيَاسِ وَالاستِحسَانِ وَالمُعَارَضَةِ وَالمُنَاقَضَةِ وَالطَّرْدِ وَالشَّرطِ وَالسَّبَبِ وَالعِلَّةِ وَغَيرِها كَمَا هُو المُستَعمَلُ عِندَ الفُقهَاءِ وَلَا بِالجَرْحِ وَالتَّعِدِيلِ وَالآحَادِ وَالمَشْهُورِ وَالمُتَوَاتِرِ وَالصَّحِيحِ وَالغَرِيبِ وَغَيرِ ذلكَ كَمَا هُو المُستَعمَلُ عِندَ أَهلِ الحَدِيثِ. فَهَلْ لِقَائِلٍ أَن يَقُولَ يَجِبُ رَفْضُ هَذِهِ العُلُومِ لِهَذِهِ العِلَّةِ، على أَنَّهُ في عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ لَم تَظْهَرِ الأَهْوَاءُ وَالبِدَعُ فَلَم تَمَسَّ الحَاجَةُ إِلى الدُّخُولِ في التَّفَاصِيلِ وَالاصطِلَاحَاتِ.
وَهَذَا العِلمُ أَصلُهُ كانَ مَوجُودًا بَينَ الصَّحَابَةِ مُتَوَفِّرًا بَينَهُم أَكْثَرَ مِمَّنْ جَاءَ بَعدَهُم، وَالكَلَامُ فِيهِ بِالرَّدِّ على أَهلِ البِدَعِ بَدَأَ في عَصرِ الصَّحَابَةِ، فَقَد رَدَّ ابنُ عَبَّاسٍ وَابنُ عُمَرَ على المُعتَزِلَةِ وَمِنَ التَّابِعِينَ رَدَّ عليهم عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ وَالحَسَنُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ وَغَيرُهُمَا. وَقَد قَطَعَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجهَهُ الخَوَارِجَ بِالحُجَّةِ وَقَطَعَ دَهْرِيًّا وَأَقَامَ الحُجَّةَ على أَربَعِينَ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ المُجَسِّمَةِ بِكَلَامٍ نَفِيسٍ مُطْنَبٍ، وَقَطَعَ الحَبرُ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنهُمَا الخَوَارِجَ بِالحُجَّةِ أَيضًا، وَقَطَعَ إِيَاس بنُ مُعَاوِيَةُ القَاضِي القَدَرِيَّةَ، وَقَطَعَ الخَلِيفَةُ عُمرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ أَصحَابَ شَوْذَبَ الخَارِجِيِّ، وَأَلَّفَ رِسَالَةً في الرَّدِّ على المُعتَزِلَةِ وَهِيَ رِسَالَةٌ وَجِيزَةٌ، وَقَطَعَ رَبِيعَةُ الرَّأْيِ شَيخُ الإِمَامِ مَالِكٍ غَيلَانَ بنَ مُسلِمٍ أَبَا مَروَانَ القَدَرِيَّ. وَكَذَلِكَ اشتَغَلَ بِهَذَا العِلمِ الحَسَنُ البِصرِيُّ وَهُوَ مِن أَكَابِرِ التَّابِعِينَ.
دور أئمة أهل السنة والجماعة في حفظ العقيدة
بَعدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ ﷺ بَرَزَ العُلَمَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَى الفِرَقِ الفَاسِدَةِ، وَكَانَ مِن أَبرَزِهِم بَعدَ السَّلَفِ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الأَشعَرِيِّ وَالإِمَامُ أَبُو مَنصُورٍ المَاتُرِيدِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا، هَذَانِ الإِمَامَانِ ظَهَرَا فِي القَرنِ الثَّالِثِ، وَرَسَّخُوا عَقَائِدَ المُسلِمِينَ، وَرَدُّوا عَلَى هَذِهِ الفِرَقِ، كَمَا أَنَّ الأَئِمَّةَ الأَربَعَةَ: مَالِكًا وَأَحمَدَ وَالشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُم رَسَّخُوا أَمرَ الفِقهِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَانتَشَرَت مَذَاهِبُهُم فِي الفِقهِ حَتَّى لَا تَكَادُ تَجِدُ مُسلِمًا غَالِبًا إِلَّا وَهُوَ عَلَى مَذهَبِ وَاحِدٍ مِن هَؤُلَاءِ الأَربَعَةِ، فَكَذَلِكَ فِي العَقِيدَةِ لَمَّا ازدَادَتِ الفِتَنُ بَعدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِن وَفَاةِ الرَّسُولِ ﷺ وَكَثُرَتِ الفِرَقُ الضَّالَّةُ وَظَهَرَتِ الفِرَقُ الِاثنَتَينِ وَالسَّبعِينَ الَّتِي أَخبَرَ عَنهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ظَهَرَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الأَشعَرِيُّ وَالإِمَامُ أَبُو مَنصُورٍ المَاتُرِيدِيُّ، وَكَانَ هَدَفُهُمَا تَرسِيخَ عَقَائِدِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَالرَّدَّ عَلَى أَهلِ الضَّلَالِ مِنَ الفِرَقِ الفَاسِدَةِ، وَصَارَ كُلُّ مَن جَاءَ بَعدَ هَذَينِ الإِمَامَينِ مِن عُلَمَاءِ المَذَاهِبِ يَتبَعُ نَهجَهُمَا فِي تَقرِيرِ العَقِيدَةِ، فَالعَقِيدَةُ تَحتَاجُ إِلَى إِثبَاتَاتٍ عَقلِيَّةٍ أَكثَرَ مِن أُمُورِ الفِقهِ، حَيثُ يَتَطَلَّبُ الرَّدُّ عَلَى أَهلِ الضَّلَالِ الكَثِيرَ مِنَ الحُجَجِ العَقلِيَّةِ، فَقَد ظَهَرَت فِرَقٌ مِثلُ الشِّيعَةِ وَالمُجَسِّمَةِ وَالمُعتَزِلَةِ وَالخَوَارِجِ، بِالإِضَافَةِ إِلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالشُّيُوعِيِّينَ وَالمَلَاحِدَةِ وَغَيرِهِم، وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ استَمَرَّ عَبرَ الزَّمَنِ، وَكَانَ الرَّدُّ عَلَيهِم كَثِيرًا جِدًّا، وَفِي زَمَانِنَا لَم تَختَلِفِ المُعَادَلَةُ، فَهُنَاكَ أُنَاسٌ عَلَى مَنهَجِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهُنَاكَ مَن خَالَفَهُم، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَالَفُوهُم لَم يَستَطِيعُوا الرَّدَّ عَلَيهِم بِالدَّلِيلِ، فَافتَرَوا عَلَيهِم، كَمَا فَعَلُوا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحمَدَ، حَاوَلُوا الطَّعنَ فِي أَئِمَّةِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، هَذِهِ المُعَادَلَةُ كَانَت فِي زَمَنِ الرَّسُولِ ﷺ وَهِيَ مُستَمِرَّةٌ فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَالعِيَاذُ بِاللهِ.
وَقَد يَشتَبِهُ عَلَى بَعضِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ كَيفَ يَعرِفُونَ أَنَّ فُلَانًا عَلَى حَقٍّ أَو فُلَانًا لَيسَ عَلَى حَقٍّ، يُعرَفُ أَهلُ الحَقِّ إِذَا أَرجَعُوكَ إِلَى مَنهَجِ أَهلِ الحَقِّ الأَوَائِلِ وَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، وَالأَئِمَّةُ الأَربَعَةُ وَمَن سَارَ عَلَى دَربِهِم وَنَهجِهِم، بِالدَّلِيلِ الصَّحِيحِ بَعِيدًا عَنِ الشُّبهَةِ، أَمَّا مَن يَدعُو هَذِهِ الأَيَّامَ إِلَى فِكرَةٍ مُستَحدَثَةٍ تُخَالِفُ الأَصلَ، وَيَستَغِلُّ جَهلَ النَّاسِ بِالأَصلِ، فَيَجِبُ أَن تَنتَبِهُوا مِنهُ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَيَّامِنَا، هُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الآنَ يَدَّعُونَ أَنَّهُم دُعَاةٌ إِسلَامِيُّونَ أَو مَشَايِخُ أَو أَئِمَّةٌ، لَكِنَّهُم يَستَغِلُّونَ جَهلَ النَّاسِ بِمَنهَجِ أَئِمَّةِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، فَلَا يَستَطِيعُ العَامِّيُّ أَن يُمَيِّزَ مَن هُوَ عَلَى الحَقِّ وَمَن هُوَ عَلَى البَاطِلِ، فَيَشتَبِهُ عَلَيهِ الأَمرُ، وَتَختَلِطُ عَلَيهِ الأُمُورُ، فَيَكُونُ حَيرَانَ.
هَذَا هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي وَصَلنَا إِلَيهِ وَالَّذِي أَخبَرَنَا عَنهُ النَّبِيُّ ﷺ حَيثُ قَالَ: «بَدَأَ الإِسلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلغُرَبَاءِ»، رَوَاهُ مُسلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عِندَ أَحمَدَ: «الَّذِينَ يَصلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»، وَهَذَا الإِصلَاحُ هُوَ العَودَةُ إِلَى مَنهَجِ النُّبُوَّةِ وَمَنهَجِ الأَئِمَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، وَلَيسَ الإِصلَاحُ كَمَا يَعتَقِدُ البَعضُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ قَاعِدَةَ “خَالِف تُعرَف”، فَبَعضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الدِّينَ هُوَ أَن تَأتِيَ بِأَشيَاءَ مُخَالِفَةٍ وَجَدِيدَةٍ لِيَتبَعَهُ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا مُبتَكَرَةٌ، وَهَذَا هُوَ عَينُ الخَطَأِ وَالضَّلَالِ، بَلِ الَّذِي يَرجِعُ إِلَى مَنهَجِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ هُوَ المُصلِحُ.
فَالرَّسُولُ ﷺ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم عِندَمَا كَانَ أَحَدٌ يُخَالِفُهُم فِي الدِّينِ أَوِ العَقِيدَةِ، لَم يَكُونُوا يَسكُتُونَ عَنهُ، بَل كَانُوا يَرُدُّونَ عَلَيهِ بِقُوَّةٍ وَبِحَزمٍ، لِأَنَّهُم يَعلَمُونَ أَهَمِّيَّةَ حِفظِ العَقِيدَةِ، فَلَو رَأَينَا شَخصًا يُخَالِفُ آيَةً مِنَ القُرآنِ أَو حَدِيثًا مِن أَحَادِيثِ الرَّسُولِ ﷺ فَمَا يَجِبُ أَن نَفعَلَهُ كَمُسلِمِينَ أَن نَثبُتَ عَلَى الحَقِّ وَأَن نُدَافِعَ عَن عَقِيدَتِنَا.
وَلَكِن مِنَ اخْتِلَافَاتِ الزَّمَانِ وَمِن عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الَّتِي أَخبَرَنَا بِهَا الرَّسُولُ ﷺ مَا قَالَهُ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَظهَرَ التُّحُوتُ وَتَنزِلَ الوُعُولُ»، فَسَأَلُوهُ: وَمَا التُّحُوتُ وَالوُعُولُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «التُّحُوتُ هُم أَسَافِلُ النَّاسِ يُصبِحُونَ فِي أَعَالِيهِم، وَالوُعُولُ هُم أَعَالِي النَّاسِ يُصبِحُونَ فِي أَسَافِلِهِم» رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ، وَهَذَا القَلبُ لِلأُمُورِ يَحدُثُ بِكَثرَةٍ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ.
تَعلَمُونَ شُعُورَ الغُربَةِ؟ تَخَيَّلُوا أَنَّكُم ذَهَبتُم إِلَى بَلَدٍ لَا يَعرِفُكُم فِيهِ أَحَدٌ، كَيفَ سَيَكُونُ شُعُورُكُم؟ الرَّسُولُ ﷺ يَصِفُ زَمَانَنَا بِهَذَا الوَصفِ: بِأَنَّهُ زَمَانُ غُربَةِ الإِسلَامِ.
أَحَدُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ فِي القَرنِ الثَّالِثِ الهِجرِيِّ أَلَّفَ كِتَابًا بِعُنوَانِ “الغُرَبَاء”، يَصِفُ فِيهِ غُربَةَ الإِسلَامِ وَأَهلِهِ، تَصَوَّرُوا أَنَّ الحَدِيثَ عَن غُربَةِ الإِسلَامِ كَانَ فِي القَرنِ الثَّالِثِ، فَمَاذَا سَيَكُونُ الحَالُ فِي القَرنِ الرَّابِعَ عَشَرَ أَوِ الخَامِسَ عَشَرَ، كَذَلِكَ الإِمَامُ الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عِندَمَا سَأَلُوهُ عَن حَدِيثِ الرَّسُولِ ﷺ: «بَدَأَ الإِسلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا»، قَالَ لَهُم: “هَذَا كَانَ فِيمَن كَانَ قَبلَنَا”، ثُمَّ سَأَلُوهُ: مَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِي زَمَانِنَا؟، فَأَجَابَ: “حَدِيثُ الرَّسُولِ ﷺ: «بَادِرُوا بِالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا وَيُمسِي كَافِرًا، وَيُمسِي مُؤمِنًا وَيُصبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنيَا قَلِيلٍ»، هَذَا الحَدِيثُ يَنطَبِق عَلَى زَمَانِهِم، فَمَا بَالُكُم بَعدَ أَلفِ سَنَةٍ مِن ذَلِكَ الزَّمَنِ؟ الأَمرُ لَا يَزدَادُ إِلَّا شِدَّةً، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ» رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ، وَقَد رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَولَ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ»، وَعَلَّقَ البُخَارِيُّ قَائِلًا: وَهُم أَهلُ الحَدِيثِ أَي أَهلُ العِلمِ الَّذِينَ يَشتَغِلُونَ بِعِلمِ الرَّسُولِ ﷺ.
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشتَغِلُونَ بِعِلمِ النَّبِيِّ ﷺ وَالصَّحَابَةِ وَالأَئِمَّةِ الأَربَعَةِ هُمُ المَقصُودُونَ بِحَدِيثِ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ»، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ»، يَعنِي إِلَى آخِرِ الزَّمَنِ، فَهَذَا الحَدِيثُ بِإِذنِ اللهِ تَعَالَى يَزِيدُنَا ثَبَاتًا وَطُمَأنِينَةً فِي قُلُوبِنَا عَلَى حَقِّيَّةِ مَنهَجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَهَذَا المَنهَجُ مَا زَالَ حَيًّا بَينَ المُسلِمِينَ وَإِن قَلَّ مَن يَدعُو إِلَيهِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ، وَسطَ كَثرَةِ الشُّبُهَاتِ وَكَثرَةِ الهَالِكِينَ وَكَثرَةِ الفِتَنِ.
لَكِن كَيفَ نُمَيِّزُ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ؟
نَنظُرُ أَوَّلًا إِلَى مَاذَا يَقُولُ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: لَا يُعرَفُ الحَقُّ بِالرِّجَالِ، وَلَكِنَّ الرِّجَالَ يُعرَفُونَ بِالحَقِّ، لَيسَ لِأَنَّهُ شَخصٌ مُعَيَّنٌ تَكَلَّمَ مَعنَاهُ كَلَامُهُ حَقٌّ وَأَعتَبِرُ كَلَامَهُ صَحِيحًا بِشَكلٍ مُطلَقٍ، لَيسَ لِأَنَّهُ الدُّكتُورُ الفُلَانِيُّ أَوِ الشَّيخُ المَشهُورُ يَكُونُ كَلَامُهُ مُصَدَّقًا دُونَ تَميِيزٍ، لَا، هَذَا لَيسَ حُكمًا صَحِيحًا، بَل نَعرِضُ كَلَامَهُ عَلَى القُرآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالأَئِمَّةِ الأَربَعَةِ فَإِذَا وَافَقَهُم كَانَ بِهِ وَنَحنُ نَتبَعُهُ، لَكِن إِذَا خَالَفَهُم فَلَا نَأخُذُ مِنهُ شَيئًا، لَا نُهلِكُ أَنفُسَنَا بِاتِّبَاعِ مَا يُخَالِفُ الحَقَّ مَهمَا كَانَ قَائِلُهُ مَشهُورًا، لِأَنَّ مِيزَانَ التَّفَاضُلِ هُوَ مُوَافَقَةُ كَلَامِ أَهلِ العِلمِ، وَلَيسَ شُهرَةَ المُتَحَدِّثِ أَو عَدَدَ مُتَابِعِيهِ، فَلَا يَغُرَّنَّكَ كَثرَةُ الهَالِكِينَ.
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعرِفُونَ الأَصلَ لِذَلِكَ يَحتَارُونَ، تَجِدُ شَخصًا يَقُولُ: “يَا شَيخُ، أَنَا فِي حَيرَةٍ، لَا أَعرِفُ مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَمَا هُوَ الخَطَأُ”، لِمَاذَا؟ لِأَنَّهُ لَم يَعرِفِ الأَصلَ، إِذَا عَرَفتَ الأَصلَ سَتَتَمَكَّنُ مِنَ التَّميِيزِ، فَالحَلُّ فِي طَلَبِ العِلمِ مِن شَخصٍ عَالِمٍ وَرِعٍ يَخَافُ عَلَى دِينِهِ وَدِينِكَ.
فَإِذَا أَرَدتَ أَن تُثبِتَ أَنَّ شَخصًا مَا عَلَى الحَقِّ فَانظُر إِلَى زُهدِهِ وَحَصَانَةِ كَلَامِهِ وَمَدَى مُوَافَقَتِهِ لِمَنهَجِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، لَا تَجِدُهُ يَقُولُ إِلَّا قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ أَو “قَالَ الشَّافِعِيُّ”، “قَالَ أَحمَدُ”، “قَالَ مَالِكٌ”، “قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ”، لَا يَقُولُ: “أَنَا أَقُولُ بِرَأيِي”، أَو “أَنَا الدُّكتُورُ الفُلَانِيُّ”، أَو “أَنَا الشَّيخُ الفُلَانِيُّ”، ثُمَّ يُخَالِفُ أَهلَ العِلمِ، لَيسَ الرَّجُلُ مَن جَمَعَ النَّاسَ حَولَهُ، إِنَّمَا الرَّجُلُ مَن جَمَعَ النَّاسَ حَولَ مَخَافَةِ اللهِ، الَّذِي يُذَكِّرُكَ بِمَنهَجِ النُّبُوَّةِ وَمَنهَجِ الرَّسُولِ ﷺ وَالعَقِيدَةِ وَالتَّوحِيدِ هُوَ الَّذِي يَنبَغِي أَن يُلتَفَتَ إِلَيهِ، لِأَنَّهُ بِالعَقِيدَةِ يُمكِنُ تَميِيزُ كُلِّ الفِرَقِ الفَاسِدَةِ، لَم تَختَلِفِ الفِرَقُ عَلَى عَدَدِ الصَّلَوَاتِ أَو غَيرِهَا مِنَ الأُمُورِ الوَاضِحَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، بَل كَانَتِ المُخَالَفَاتُ فِي الأُصُولِ العَقِيدَةِ وَالتَّوحِيدِ.
خاتمة
عَلَينَا أَن نُدَافِعَ عَن دِينِنَا وَنَرُدَّ عَلَى أَهلِ الضَّلَالِ بِاستِخدَامِ العِلمِ، بِدَافِعِ الغَيرَةِ عَلَى هَذَا الدِّينِ، لِأَنَّ هَذِهِ مَسؤُولِيَّتُنَا، فَإِذَا كَانَ الغِشُّ فِي الدُّنيَا مَذمُومًا وَقَدْ حَذَّرَ مِنهُ الرَّسُولُ ﷺ وَحَرَّمَهُ الشَّرعُ، فَمَا القَولُ فِي الغِشِّ فِي العَقِيدَةِ الَّذِي قَد يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِ المَغشُوشِ، أَلَا يَكُونُ التَّحذِيرُ مِنَ الغِشِّ فِي العَقِيدَةِ أَوجَبَ مِنَ التَّحذِيرِ مِنَ الغِشِّ فِي الأُمُورِ الدُّنيَوِيَّةِ؟
فَرَابِطَةُ الدِّينِ هِيَ أَقوَى مِن رَابِطَةِ النَّسَبِ، وَأَقوَى مِن رَابِطَةِ المَالِ، وَأَقوَى مِن رَوَابِطِ الدُّنيَا الفَانِيَةِ، رَابِطَةُ الدِّينِ هِيَ الَّتِي جَمَعَت بَينَ أَبِي بَكرٍ القُرَشِيِّ وَبِلَالٍ الحَبَشِيِّ وَصُهَيبٍ الرُّومِيِّ وَسَلمَانَ الفَارِسِيِّ وَعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ القُرَشِيِّ، هَذِهِ الرَّابِطَةُ المَتِينَةُ هِيَ الَّتِي جَعَلَت هَؤُلَاءِ يَجلِسُونَ مَعًا وَيَقِفُونَ خَلفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي صَفٍّ وَاحِدٍ.
فَرَأسُ مَالِ المُسلِمِ هُوَ دِينُهُ وَتَوحِيدُهُ وَعَقِيدَتُهُ، إِذَا خَرَجنَا مِنَ الدُّنيَا وَنَحنُ نَحمِلُ هَذَا الدِّينَ، فَنَحنُ لَم نَخسَر، بَل رَبِحنَا حَتَّى لَو خَسِرنَا كُلَّ أَموَالِ الدُّنيَا.
وَعَلَيكُم بِطَلَبِ العِلمِ الشَّرعِيِّ وَالتَّمَسُّكِ بِالفَرضِ العَينِيِّ مِن عِلمِ الدِّينِ، فَكُلُّ مُسلِمٍ وَمُسلِمَةٍ يَجِبُ أَن يَتَعَلَّمَ مَا لَا يَسَعُهُ جَهلُهُ مِن أُمُورِ العَقِيدَةِ وَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالمُعَامَلَاتِ، حَتَّى نَتَمَكَّنَ مِنَ التَّصَدِّي لِلفِتَنِ الَّتِي تَنتَشِرُ فِي زَمَانِنَا.
اطلُبُوا الدَّلِيلَ فِي كُلِّ شَيءٍ مِن أُمُورِ دِينِكُم، لَا تَأخُذُوا كَلَامًا بِلَا دَلِيلٍ، وَاحتَاطُوا فِي دِينِكُم أَكثَرَ مِمَّا تَحتَاطُونَ فِي أُمُورِ الدُّنيَا، لِأَنَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى دِينِكُم لَهُ تَبِعَاتٌ بَعدَ المَوتِ.
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.