الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ مدبرِ الليالي والأيامِ، ومصرِّفِ الشهورِ والأعوامِ، المنفردِ بالكمالِ والتمامِ الملكِ القدوسِ السلامِ، تنزَّهَ ربِّي عنْ دَرَكِ الأفهامِ وتعالَى وتقدَّسَ عنْ إحاطَةِ الأوهامِ ليسَ بجسمٍ فلا يُشْبِهُ الأجسامَ، إلهٌ رحيمٌ عظيمُ الإنعامِ، وربٌّ قديرٌ شديدُ الانتقامِ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لَا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنَا وحبيبَنَا وعظيمَنَا محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّمْ وأنعِمْ وأكرِمْ علَى سيدِنَا محمدٍ مصباحِ الظلامِ، وعلَى ءالِهِ وأصحابِهِ الأعلامِ.
عبادَ اللهِ أوصيكم ونفسيْ بتقوى اللهِ العظيم، اتقوا اللهَ تعالى في السرِّ والعلنِ، اتقُوا اللهَ تعالَى القائلَ في كتابهِ العظيمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. ولا تغفُل عن قولِ اللهِ تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (العلق:14).
إخوةَ الإيمانِ والإسلامِ: عجبًا ممن يعيشُ في شهرٍ هو أفضلُ شهورِ العامِ فينتهي ولا يُصْلحُ نفسَه، شهرُ الصبرِ ولا يصبِرُ فيه، شهرُ الصدقةِ ولا يتصدَّقُ فيه، شهرُ قراءةِ القرآنِ فلا يتعلّمُ القرآنَ ولا يقرأُهُ قراءةً صحيحةً فيه فيكونُ بعيدًا كلّ البعدِ من الخيرِ كما قال عليه الصلاةُ والسلامُ:” وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ(1) دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ(2) قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ“(3). ولكن أخي المسلم ما زالتِ الفرصةُ أمامَك، فإياكَ وأن تكونَ من الخَاسِرينَ، فإنْ كانَ في النُّفُوسِ زاجِرٌ، وإِن كان في القُلُوبِ وَاعِظٌ، فقد بَقِيَتْ من أَيَّامِهِ بَقِيَّةٌ، بَقِيَّةٌ وأَيُّ بَقِيَّةٍ؟ إِنَّهَا بقيةٌ من عَشْرِهِ الأَخِيرَةِ، بقِيَّةٌ كَانَ يَحْتَفِي بِهَا نَبِيّنا مُحَمَّدٌ ﷺأَيَّمَا احْتِفَاءٍ، فعن السيدةِ عائشةَ رضي الله عنها قالت:” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ(4)” وعن عائشةَ رضي اللهُ عنها كذلك قالت:” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ”(5). فافتحْ أخي المسلمَ بابَ الجِد، وأغلقْ بابَ الكسلِ.
إخوة الإسلام: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُرْجَى في هذه الأيامِ العشرِ وَيُتَحَرَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (القدر:2)، أي إن ليلةَ القدر فضلُها وشرفُها عظيمٌ جدًّا، فاسمعْ منتبها أخي المسلم لفضلِها وشرفها، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر:3) تخيّل معي أخي المؤمن ثوابُ العبادةِ في ليلةٍ واحدةٍ خيرٌ وأفضلُ من ثوابِ العبادة في ثلاثٍ وثمانينَ سنة وثلثٍ تقريبا ليس فيها ليلةُ قدر!! ثم تقومُها في اللهوِ واللعبِ!! {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (القدر:4) أفلا تحب أخي المسلم أن يدعوَ لك سيدُنا جبريلُ عليه السلام؟ أفلا تحبُّ أن يدعوَ لك رئيسُ الملائكة؟ أفلا تحبُّ أن يدعوَ لك ولي من أولياءِ اللهِ تعالى؟ ولكن ليس من أولياء البشر، فالملائكةُ ليسوا بشرًا ولا ذكورًا ولا إناثًا، ولا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون، ولا يتزوجون، ولا يعصون اللهَ ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، أفلا تحبُّ أن يدعوَ لكَ من هذه صفتُهُ؟ فاسمع معي لقولِ النبيِّ ﷺ: “إذا كانت ليلةُ القدرِ نزل جبريلُ فى كَبْكَبَة(6) من الملائكةِ يصلونَ على كلِّ عبدٍ قائمٍ أو قاعدٍ يذكرُ اللهَ“(7) أي يدعونَ له بخير.{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر:5) أيْ إِنَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ سَلامَةٌ وَخَيْرٌ كُلُّهَا لا شَرَّ فِيهَا بَلْ فِيهَا خَيْرٌ وَبَرَكَةٌ، فلا يَحْدُثُ فِيهَا دَاءٌ وَلا يُرْسَلُ فِيهَا شَيْطَانٌ إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وهي الليلةُ التي قَالَ الله تَعَالَى عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان:4)، أي في ليلةِ القدرِ يُطلِعُ اللهُ تعالى ملائكتَه الكرامِ على أخبارِ السنةِ القابلةِ من إماتةٍ وإحياءٍ ومَن مِن العبادِ سيبتليهِ اللهُ تعالى بالمرضِ والفقرِ، ومَن منهم يُنعمُ عليهم بالصحةِ والغنى، ونحو ذلك.
أخي المسلم: أتحبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لك كلَّ ما تقدَّمَ من ذنوبِك ومعاصيكَ الصغائرِ؟!! فاسمعْ معي قولَ رَسُولِ اللهِ ﷺ: “مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”(8)، وقد أَخْفَى اللهُ سُــبْحَانَهُ تَعْيِينَهَا اخْتِبَارًا وَابْتِلاَءً؛ لِيَتَبَيَّنَ الْعَامِلُونَ، وَيَنْكَشِفَ الْمُقَصِّرُونَ؛ فَمَنْ حَرِصَ عَلَى شَيْءٍ جَدَّ فِي طَلَبِهِ، وَهَانَ عَلَيْهِ مَا يَلْقَى مِنْ عَظِيمِ تَعَبِهِ، ولكنّ الغالبَ أنها في العشرِ الأواخرِ من رمضان. فاحرص على أن لا تضيِّعَ ما بقي منها.
أيها المُسلمونَ المُوحّدونَ المنزّهونَ: وردَ في الصَّحيحينِ(9) أن رسولَ اللهِ ﷺ اعتكَفَ العشرَ الأوائلَ من رمضانَ، فلما أتمهُنَّ أتاهُ جبريلُ فقال: إن الذي تطلبُ أمامَكَ، فاعتكف العشرَ الأوسطَ من رمضان فلما أتمهنّ أتاهُ جبريلُ فقال: إن الذي تطلبُ أمامَكَ، فاعتكفَ العشرَ الأواخِرَ التماسًا لليلةِ القدرِ فيها. فالمُعْتَكِفُ ذِكْرُ اللهِ أنِيسُهُ، والقرءانُ بالقراءةِ الصحيحةِ جليسُهُ، والصَّلاَةُ راحَتُهُ، والدُّعَاءُ والتّضَرُّعُ لَذَّتُــهُ؛ إذا أوَى النَّاسُ إلى بُيُوتِهِم وأَهلِيهِمْ، ورجعُــوا إلى أموَالِهِم وأولاَدِهِمْ، لَزِمَ هذا المعتَكِفُ بيْتَ رَبِّهِ، وحَبَسَ مِن أَجلِهِ نَفْسَهُ، يرجُو رَحْمَتهُ ويخْشَى عذابهُ، لاَ يطلِقُ لِسَانَهُ في لَغْوٍ، ولا يفْتَحُ عَيْنهُ لفُحْشٍ، وَلا تَتَنَصَّتُ أُذُنُــهُ لِبَذَاءٍ، سلِمَ مِنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وجَانَبَ التَّنَابُزَ بِالأَلقَابِ، وَالقدْحَ في الأعرَاضِ، نسأل الله تعالى أن يتقبّل صيامَنا وقيامَنا هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ لهُ النعمةُ وله الفضلُ وله الثناءُ الحَسَنُ والصلاةُ والسلامُ على سيدنَا محمدٍ سيدِ البشرِ، عبادَ اللهِ اتقوا اللهَ وأطيعوهُ. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ: روي عن سيدِنا عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمه اللهُ أنه كان يأمرُ الناسَ بختمِ شهرِ رمضانَ بالاستغفارِ والصدقةِ، فكيفَ إذا كانت هذه الصدقةُ من الصدقاتِ الواجبةِ، عنيتُ بذلك زكاةَ الفطرِ فعَنِ الصحابيّ الجليلِ عبدِ اللهِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَال: “فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ”(10)وهي واجبةٌ على من أدركَ ءاخرَ جزءٍ من رمضانَ وأوّلَ جزءٍ من شوّالٍ، وذلك بإدراكِ غروبِ شمسِ ءاخرِ يومٍ من رمضانَ وهو حيٌّ فلا تجبُ فيما حدثَ بعدَ الغروب من ولدٍ مثلا. ويجوزُ إخراجُ زكاةِ الفطرِ في رمضانَ ولو أوَّلَ ليلةٍ من رمضان لكنّ السُّنَّةَ إخراجُها يومَ العيدِ قبلَ صلاةِ العيدِ، ويحرُم تأخيرُها عن غروبِ شمسِ يومِ العيدِ بلا عذرٍ.
ومقدارُ زكاةِ الفطرِ أيها الأحبةُ في المذهبِ الشافعيِّ عن كلِّ من يُزكَّى عنهُ صاعٌ من غالبِ قوتِ البلدِ وهو هنا القمحُ والصاعُ أربعةُ أمدادٍ والمدُّ ملءُ كفَّي رجلٍ معتدلِ الخِلْقَةِ(11) .وهنا سؤال يُسألُ كثيرًا هذه الأيام، وهو هل يجوزُ إخراجُ القيمةِ أي إخراجُ مالٍ مثلا بدلَ القمحِ ؟ فالجوابُ أن ذلك جائز، ففي مذهبِ الإمامِ أبي حنيفةَ(12) يجوزُ إخراجُ القيمةِ وهو ما يُساوي: دينارًا وثمانين قرشا أو دينارين في بلادِنا وما زادَ صدقةٌ. ولا تلتفتْ لمن يحرِّم إخراجَها بالعملةِ الورقيةِ زاعمًا الإجماعَ على ذلك بين العلماء.
نسألُ اللهَ تعالى أن يتقبلَ صدقاتِنا وصيامَنا وقيامَنا، إنه على كل شيءٍ قديرٌ وبعبادِه لطيفٌ خبيرٌ. عِبَادَ اللهِ إِنَّ اللهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيْمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ الكَرِيمِ فَقَالَ: {إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلونَ على النبيِّ يا أيُّهَا الذينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَليهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} لبيكَ اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ في العالمينَ إنكَ حميدٌ مجيدٌ. اللهمّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأموات، اللهم اجعلنا من الصابرين القانتين القائمين العابدين، اللهم ارفعِ البلاءَ والأمراضَ عنِ المسلمينَ، وَفَرِّجْ عَنَّا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ، اللهم فَرِّجِ الكَرْبَ عَنِ الأَقْصَى يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ، واحفظْ فيه المسلمينَ المرابطين، لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِيْنَ اللهمّ أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونَحنُ الفقراءُ. اللهمّ أغِث قلوبَنا بالإيمانِ واليقين، اللهم اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، اللهم وَفِّقْ مَلِكَ البلادِ لِمَا فيه خيرُ البلادِ والعبادِ يا ربَّ العالمينَ ارزقْهُ البطانَةَ الصالحةَ التي تأمرُهُ بالمعروفِ وتنهاهُ عنِ المنكرِ، عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبغي يعظكُمْ لعلكم تذكرونَ وأقمِ الصلاةَ.
الحاشية
- أصابه الذلُّ والخسران.
- انتهى
- رواه الترمذي في سننه وحسنه.
- رواه الشيخان: البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم. وقوله:”وشد مئزره” أي اعتزل النساء وقيل المراد به الجدّ في العبادة.
- رواه الإمام مسلم في صحيحه.
- متفق عليه.
- الرواية هنا بالمعنى.
- أي جماعة منهم.
- رواه السيوطي في الجامع الكبير، والبيهقي في الشعب.
- رواه أبو داود في سننه.
- عند الرافعي من الشافعية يساوي 514.9 غم ، وعند النووي من الشافعية يساوي: 509.25 غم أي نصف كيلو تقريبا.
- في مذهب الإمام أبي حنيفة يخرج نصف صاع من قمح أو صاع من شعير أو تمر، ونصف الصاع من القمح يساوي: 2.145 غم أي ما يقارب 2 كيلو وثمن .