شيخ المجاهدين موسى بن نصير رحمه الله

سيرة الأمير الكبير أبو عبد الرحمن موسى بن نصير

بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعدُ:

المقدمة

‌‌بَعدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ حَزِنَ الصَّحَابَةُ لِفَقدِهِ حُزنًا شَدِيدًا، حَتَّى قَالَ بَعضُهُم: عِندَمَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَظلَمَ مِنَ المَدِينَةِ كُلُّ مَا كَانَ قَد تَنَوَّرَ بِقُدُومِهِ، وَقَالَ ءَاخَرُ: حِينَ دَفَنَّا رَسُولَ اللهِ ﷺ أَنكَرنَا قُلُوبَنَا.

وَلَكِنَّ هَذَا الحُزنَ لَم يُنسِ الصَّحَابَةَ دَعوَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَم يَقعُدُوا فِي بُيُوتِهِم مُتَكَاسِلِينَ وَلَا انشَغَلُوا بِأَمرِ الدُّنيَا، فَهَذَا أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ أَرسَلَ الجُيُوشَ لِقِتَالِ المُرتَدِّينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ بَعدَ مَوتِ النَّبِيِّ ﷺ فَورًا، وَلَم يَنتَظِر أَن يَقوَى المُسلِمُونَ أَكثَرَ، مَعَ أَنَّ عَدَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُ الرَّأيَ فِي هَذَا، وَاستَمَرَّتِ الفُتُوحَاتُ الإِسلَامِيَّةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعُثمَانَ وَمَن بَعدَهُ مِنَ الخُلَفَاءِ وَالسَّلَاطِينِ حَتَّى اتَّسَعَتِ رُقعَةُ الدَّوْلَةِ الإِسلَامِيَّةُ جِدًّا، فَكَانَ نِتَاجُ هَذَا العَمَلِ أَن دَخَلَ فِي الإِسلَامِ نَاسٌ كَانُوا مِن أَعلَامِ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ وَعُلَمَائِهَا، فَقَد سَبَا خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ فِي إِحدَى المَعَارِكِ فِي فُتُوحِ العِرَاقِ سِيرِينَ وَالِدَ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ وَيَسَارَ وَالِدَ الحَسَنِ بنِ يَسَارٍ البِصرِيِّ وَغَيرِهِمَا، وَكَانَ مِن هَؤُلَاءِ نُصَيرٌ وَالِدُ شَيخِ المُجَاهِدِينَ مُوسَى بنِ نُصَيرٍ رَحِمَهُ اللهُ الَّذِي كَانَ لَهُ فَضلٌ كَبِيرٌ عَلَى الفُتُوحَاتِ الإِسلَامِيَّةِ وَخُصُوْصًا فِيْ فَتْحِ الْأَنْدَلُسِ، فَجَزَاهُ اللهُ عَنَّا كُلَّ خَيرٍ.

اسمه ونسبه رحمه الله

الأَمِيرُ الكَبِيرُ أَبُو عَبدِ الرَّحمَنِ مُوسَى بنِ نُصَيرٍ اللَّخمِيُّ، مُتَوَلِّي إِقلِيمِ المَغرِبِ، وَفَاتِحُ الأَندَلُسِ، قِيلَ كَانَ مَولَى امرَأَةٍ مِن لَخمٍ، وَقِيلَ وَلَاؤُهُ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَأَصلُهُ مِن عَينِ التَّمرِ، وَكَانَ وَالِدُهُ مِن سَبيِ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ فِي فُتُوحِ العِرَاقِ، وَكَانَ اسمُهُ نَصرًا، فَسُبِيَ ثُمَّ صُغِّرَ اسمُهُ فَسُمِّيَ نُصَيرًا ثُمَّ أُعتِقَ، وَوَلَدُهُ مُوسَى بنُ نُصَيرٍ الَّذِي كَانَ لَهُ الفَضلُ فِي فَتحِ الأَندَلُسِ مَعَ طَارِقِ بنِ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللهُ.

صفاته ومناقبه رحمه الله

كَانَ أَعرَجَ مَهِيبًا ذَا رَأيٍ وَحَزمٍ، مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ ثَابِتًا فِي المَعَارِكِ مِقدَامًا، صَاحِبَ حِنكَةٍ وَخُطَطٍ عَسكَرِيَّةٍ حَتَّى سُمِّيَ شَيخَ المُجَاهِدِينَ، فَتَحَ البِلَادَ الوَاسِعَةَ حَتَّى كَادَ أَن يَصِلَ القُسطَنطِينِيَّةَ، وَكَانَ مِن شِدَّةِ حُبِّهِ لِلجِهَادِ مُجَاهِدًا وَأَولَادُهُ مُجَاهِدِينَ مِن قَادَاتِ الجُيُوشِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ صَالِحًا تَقِيًّا.

جهاده رحمه الله

وَلِيَ غَزوَ البَحرِ لِمُعَاوِيَةَ، فَغَزَا قُبرُسَ وَبَنَى هُنَاكَ حُصُونًا، وَقَدِ استَعمَلَ عَلَى أَقصَى المَغرِبِ مَولَاهُ طَارِقًا، فَبَادَرَ طَارِقٌ وَفَتَحَ الأَندَلُسَ، وَلَحِقَهُ مُوسَى فَتَمَّمَ فَتحَهَا وَجَرَت لَهُ عَجَائِبُ هَائِلَةٌ، وَلَمَّا هَمَّ المُسلِمُونَ بِالهَزِيمَةِ، كَشَفَ مُوسَى سُرَادِقَهُ عَن بَنَاتِهِ وَحُرَمِهِ وَبَرَزَ، وَرَفَعَ يَدَيهِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالبُكَاءِ، فَكُسِرَت بَينَ يَدَيهِ جُفُونُ السُّيُوفِ، وَصَدَقُوا اللِّقَاءَ، وَنَزَلَ النَّصرُ، وَغَنِمُوا مَا لَا يُعَبَّرُ عَنهُ، وَمِن ذَلِكَ مَائِدَةُ سُلَيمَانَ عَلَيهِ السَّلَامُ مِن ذَهَبٍ وَجَوَاهِرَ.

وَقِيلَ: ظَفِرَ بِسِتَّةَ عَشَرَ قمقما جَرَّةً عَلَيهَا خَتمُ سُلَيمَانَ، فَفَتَحَ أَربَعًَا وَثَقَبَ مِنهَا وَاحِدَةً، فَإِذَا شَيطَانٌ يَخرُجُ مِنهَا وَيَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَا أَعُودُ أُفسِدُ فِي الأَرضِ، ثُمَّ نَظَرَ فَقَالَ: وَاللهِ مَا أَرَى سُلَيمَانَ وَلَا مُلكَهُ وَذَهَبَ، فَطُمِرَت بَاقِي الجِرَارِ، وَكَانَ هَذَا شَيطَانًا حَبَسَهُ سُلَيمَانُ فِي هَذِهِ الجَرَّةِ وََبَقِيَ فِيهَا إِلَى أَن فَتَحَ مُوسَى بنُ نُصَيرٍ الأَندَلُسَ.

وَقَالَ اللَّيثُ: بَعَثَ مُوسَى ابنَهُ مَروَانَ عَلَى الجَيشِ فَأَصَابَ مِنَ السَّبيِ مِائَةَ أَلفٍ، وَبَعَثَ ابنَ أَخِيهِ فَسَبَى أَيضًا مِائَةَ أَلفٍ مِنَ البَربَرِ، وَدَلَّهُ رَجُلٌ عَلَى كَنزٍ بِالأَندَلُسِ، فَذَهَبُوا وَنَزَعُوا بَابَهُ، فَسَالَ عَلَيهِم مِنَ اليَاقُوتِ وَالزَّبَرجَدِ مَا بَهَرَهُم، وَقِيلَ فِي شَأنِ هَذَا الكَنزِ: إِن كَانَتِ الطِّنفِسَةُ (شَيءٌ مِثلُ السَّجَّادِ) لَتُوجَدُ مَنسُوجَةً بِالذَّهَبِ وَاللُّؤلُؤِ وَاليَاقُوتِ، لَا يَستَطِيعُ اثنَانِ حَملَهَا فَيَقسِمَانِهَا بِالفَأسِ.

وَقِيلَ: لَمَّا دَخَلَ مُوسَى إِفرِيقِيَّةَ (تُونُسَ)، وَجَدَ غَالِبَ مَدَائِنِهَا خَالِيَةً بِسَبَبِ البَربَرِ، وَكَانَ فِيهَا قَحطٌ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّومِ وَالصَّلَاحِ، وَبَرَزَ بِهِم إِلَى الصَّحرَاءِ وَمَعَهُ سَائِرُ الحَيَوَانَاتِ، فَوَقَعَ البُكَاءُ وَالضَّجِيجُ، وَبَقِيَ إِلَى الظُّهرِ، ثُمَّ صَلَّى وَخَطَبَ وَدَعَا اللهَ، فَسُقُوا وَأُغِيثُوا.

وَلَمَّا تَوَغَّلَ فِي سَيرِهِ فِي الأَندَلُسِ أَتَى أَرضًا تَمِيدُ بِأَهلِهَا، فَقَالَ عَسكَرُهُ: إِلَى أَينَ تُرِيدُ أَن تَذهَبَ بِنَا؟ حَسبُنَا مَا بِأَيدِينَا، فَقَالَ: لَو أَطَعتُمُونِي لَوَصَلتُ إِلَى القُسطَنطِينِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى المَغرِبِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَغلِهِ “كَوكَبَ” مِن تَوَاضُعِهِ، وَهُوَ يَجُرُّ الدُّنيَا بَينَ يَدَيهِ، وَأَمَرَ بِالعِجلِ تَجُرُّ أَوقَارَ الذَّهَبِ وَالحَرِيرِ، وَاستَخلَفَ ابنَهُ بِإِفرِيقِيَّةَ، وَأَخَذَ مَعَهُ فِي السَّبيِ مِائَةً مِن كُبَرَاءِ البَربَرِ، وَمِائَةً وَعِشرِينَ مِنَ المُلُوكِ وَأَولَادِهِم، فَقَدِمَ مِصرَ فِي هَيئَةٍ مَا سُمِعَ بِمِثلِهَا، فَأَعطَى مِنَ الغَنِيمَةِ العُلَمَاءَ وَالأَشرَافَ ثُمَّ سَارَ إِلَى الشَّامِ، وَفِي أَثنَاءِ سَيرِهِ إِلَى الشَّامِ لِيُبَشِّرَ الوَلِيدَ بنَ عَبدِ المَلِكِ بِفَتحِ الأَندَلُسِ مَرِضَ الوَلِيدُ، وَكَتَبَ إِلَيهِ سُلَيمَانُ بنُ عَبدِ المَلِكِ يَأمُرُهُ بِالتَّوَقُّفِ، وَكَانَ سُلَيمَانُ يُرِيدُ مِن ذَلِكَ أَن يَنتَظِرَ مَوتَ الوَلِيدِ فَيُنسَبَ الفَتحُ لَهُ هُوَ، فَمَا سَمِعَ مُوسَى بنُ نُصَيرٍ مِنهُ وَأَكمَلَ السَّيرَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الوَلِيدِ وَبَشَّرَهُ بِالفَتحِ، فَحَلَفَ سُلَيمَانُ إِن ظَفِرَ بِهِ لَيُصَلِّبَنَّهُ مِن شِدَّةِ مَا اغتَاظَ مِنهُ، وَقَدِمَ قَبلَ مَوتِ الوَلِيدِ، بِمَا لَا يُحَدُّ مِنَ النَّفَائِسِ، وَقُوِّمَتِ المَائِدَةُ بِمِائَةِ أَلفِ دِينَارٍ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ مَرَّةً: وَاللهِ لَوِ انقَادَ النَّاسُ لِي، لَقُدتُهُم حَتَّى أُوقِفَهُم عَلَى رُومِيَّةَ، ثُمَّ لَيَفتَحَنَّهَا اللهُ عَلَى يَدَيَّ، وَقِيلَ: جَلَسَ الوَلِيدُ عَلَى مِنبَرِهِ يَومَ الجُمُعَةِ، فَأَتَى مُوسَى مِن مَعرَكَةٍ لَهُ وَقَد أَلبَسَ ثَلَاثِينَ مِنَ المُلُوكِ التِّيجَانَ وَالثِّيَابَ الفَاخِرَةَ وَدَخَلَ بِهِمُ المَسجِدَ وَأَوقَفَهُم تَحتَ المِنبَرِ (أَي كَانَ هَؤُلَاءِ مِمَّنِ انتَصَرَ عَلَيهِم فِي تِلكَ المَعرَكَةِ)، فَحَمِدَ الوَلِيدُ اللهَ وَشَكَرَهُ.

موقفه مع سليمان بن عبد الملك

وَلِيَ سُلَيمَانُ الحُكمَ فَأَهَانَهُ وَعَاقَبَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَم يَسمَع كَلَامَهُ، ثُمَّ أَوقَفَهُ فِي الحَرِّ – وَكَانَ مُوسَى سَمِينًا – حَتَّى غُشِيَ عَلَيهِ، وَبَقِيَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ يَتَأَلَّمُ لَهُ، فَقَالَ سُلَيمَانُ: يَا أَبَا حَفصٍ، مَا أَظُنُّ إِلَّا أَنَّنِي خَرَجتُ مِن يَمِينِي، يَعنِي بِزَعمِهِ أَنَّهُ الآنَ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيهِ وَخَرَجَ مِن يَمِينِهِ فَتَرَكَهُ.

وَضَمَّهُ يَزِيدُ بنُ المُهَلَّبِ إِلَيهِ، ثُمَّ فَدَى نَفسَهُ بِبَذلِ أَلفِ أَلفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ لَهُ: أَنتَ فِي خَلقٍ كَبِيرٍ مِن مَوَالِيكَ وَجُندِكَ، أَفَلَا أَقَمتَ فِي مَقَرِّ عِزِّكَ وَبَعَثتَ بِالتَّقَادُمِ، قَالَ: لَو أَرَدتُ لَصَارَ، وَلَكِن آثَرتُ اللهَ وَلَم أَرَ الخُرُوجَ.

وَقَالَ لَهُ سُلَيمَانُ يَومًا: مَا كُنتَ تَفزَعُ إِلَيهِ عِندَ الحَربِ؟، فَقَالَ: الدُّعَاءُ وَالصَّبرُ، قَالَ: فَأَيُّ الخَيلِ رَأَيتَ أَصبَرَ؟، قَالَ: الشُّقرَ، قَالَ: فَأَيُّ الأُمَمِ أَشَدُّ قِتَالًا؟، قَالَ: هُم أَكثَرُ مِن أَن أَصِفَ، قَالَ: فَأَخبِرنِي عَنِ الرُّومِ، قَالَ: أُسُدٌ فِي حُصُونِهِم، عُقبَانٌ عَلَى خُيُولِهِم، نِسَاءٌ فِي مَرَاكِبِهِم، إِن رَأَوا فُرصَةً انتَهَزُوهَا، وَإِن رَأَوا غَلَبَةً فَأَوعَالٌ تَذهَبُ فِي الجِبَالِ، لَا يَرَونَ الهَزِيمَةَ عَارًا، قَالَ: فَالبَربَرِ؟، قَالَ: هُم أَشبَهُ العَجَمِ بِالعَرَبِ لِقَاءً وَنَجدَةً وَصَبرًا وَفُرُوسِيَّةً، غَيرَ أَنَّهُم أَغدَرُ النَّاسِ، قَالَ: فَأَهلِ الأَندَلُسِ؟، قَالَ: مُلُوكٌ مُترَفُونَ، وَفُرسَانٌ لَا يَجبُنُونَ، قَالَ: فَالفِرِنجِ؟، قَالَ: هُنَاكَ العَدَدُ وَالجَلَدُ وَالشِّدَّةُ وَالبَأسُ، قَالَ: فَكَيفَ كَانَتِ الحَربُ بَينَكَ وَبَينَهُم؟، قَالَ: أَمَّا هَذَا فَوَاللهِ مَا هُزِمَت لِي رَايَةٌ قَطُّ، وَلَا بُدِّدَ لِي جَمعٌ، وَلَا نُكِبَ المُسلِمُونَ مَعِي مُنذَ اقتَحَمتُ الأَربَعِينَ إِلَى أَن بَلَغتُ الثَّمَانِينَ، ثُمَّ أَخَذَ يُعَدِّدُ مَا أَصَابَ مِنَ الجَوهَرِ وَالزَّبَرجَدِ حَتَّى تَحَيَّرَ سُلَيمَانُ.

وَقَالَ مَرَّةً: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ، لَقَد كَانَتِ الأَلفُ شَاةٍ تُبَاعُ بِمِائَةِ دِرهَمٍ، وَتُبَاعُ النَّاقَةُ بِعَشرَةِ دَرَاهمَ، وَتَمُرُّ النَّاسُ بِالبَقَرِ فَلَا يَلتَفِتُونَ إِلَيهَا، وَلَقَد رَأَيتُ العِلجَ وَزَوجَتَهُ وَأَولَادَهُ يُبَاعُونَ بِخَمسِينَ دِرهَمًا.

وَفِي هَذِهِ المُدَّةِ وَبَعدَهَا كَانَت غَزوَةُ القَسطَنطِينِيَّةِ فِي البَرِّ وَالبَحرِ، وَدَامَ الحِصَارُ نَحوًا مِن سَنَةٍ، وَكَانَ عَلَمُ الجِهَادِ فِي أَطرَافِ البِلَادِ مَنشُورًا، وَالدِّينُ مَنصُورًا، وَالدَّولَةُ عَظِيمَةً، وَالكَلِمَةُ وَاحِدَةً.

فَلَمَّا أَرَادَ سُلَيمَانُ السَّيرَ إِلَيهَا وَفَتحَهَا كَانَ عِندَهُ مُوسَى بنُ نُصَيرٍ وَأَخُو سُلَيْمَانَ مَسلَمَةُ، فَقَالَ: أَشِيرَا عَلَيَّ، فَقَالَ مُوسَى: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ، إِن أَرَدتَ ذَلِكَ فَسِر سِيرَةَ الصَّحَابَةِ فِيمَا فَتَحُوهُ، كُلَّمَا فَتَحُوا مَدِينَةً اتَّخَذُوهَا دَارًا وَحَازُوهَا لِلإِسلَامِ، فَابدَأ بِالدُّرُوبِ وَافتَح حُصُونَهَا حَتَّى تَبلُغَ القُسطَنطِينِيَّةَ، فَإِنَّهُم سَيُعطُونَ بِأَيدِيهِم، فَقَالَ لِمَسلَمَةَ: وَمَا تَقُولُ أَنتَ؟، قَالَ: هَذَا الرَّأيُ إِن طَالَ عُمُرٌ إِلَيهِ، أَو كَانَ الَّذِي يَأتِي عَلَى رَأيِكَ، وَبَرِيدُ ذَلِكَ خَمسَ عَشرَةَ سَنَةً، وَلَكِنِّي أَرَى أَن تُغَزِّيَ المُسلِمِينَ القُسطَنطِينِيَّةَ بَرًّا وَبَحرًا فَيُحَاصِرُونَهَا، فَإِنَّهُم مَا دَامَ عَلَيهِمُ البَلَاءُ أَعطَوُا الجِزيَةَ أَو أُخِذَت عُنوَةً، فَمَتَى وَقَعَ ذَلِكَ كَانَ مَا دُونَهَا مِنَ الحُصُونِ بِيَدِكَ، فَقَالَ: هَذَا الرَّأيُ.

وفاته رحمه الله

مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ فِي المَدِينَةِ بِمَرِّ الظُّهرَانِ أَو بِوَادِي القُرَى عَلَى اختِلَافٍ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبعٍ أَو تِسعٍ وَتِسعِينَ، وَكَانَ خَرَجَ مَعَ سُلَيمَانَ بنِ عَبدِ المَلِكِ إِلَى الحَجِّ فَمَاتَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىْ وَأَحْسَنَ لَهُ الثَّوَابَ فِيْ الْآخِرَةِ آمِيْنَ..

وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

المصادر

هَذِهِ المَسَائِلُ مَجمُوعَةٌ وَمُلَخَّصَةٌ مِن:

  1. سِيَرِ أَعلَامِ النُّبَلَاءِ لِابنِ كَثِيرٍ.
  2. الكَامِلِ فِي التَّارِيخِ لِابنِ الأَثِيرِ.
  3. البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ لِابنِ كَثِيرٍ.
  4. تَارِيْخِ الطَّبَرِيِّ لِلْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ.
صحيح البخاري - كتاب العلم - الدرس السادس

صحيح البخاري · كتاب العلم · الدرس (6)

المقدمة ‌‌‌‌الحَمدُ للهِ الَّذِي شَيَّدَ وَقَوَّى مَنَارَ الدِّينِ، وَبَيّنَ لِلخَلقِ شَرَائِعَهُ وَأَحكَامَهُ أَحكَمَ تَبيِينٍ، وَبَعَثَ صَفوَتَهُ وَخَصَائِصَ أَولِيَائِهِ…

ربما يعجبك أيضا

Total
0
Share