بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعدُ:
المقدمة
كَانَ الإِفْرَنْجُ قَدْ احْتَلُّوا بَيْتَ المَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ البِلَادِ، وَذَبَحُوا فِيهَا المُسْلِمِينَ، وَرَفَعُوا فِيهَا الصُلْبَانَ، وَحَوَّلُوا مِحْرَابَ بَيْتَ المَقْدِسِ إِلَى حَظِيرَةٍ لِلْخَنَازِيرِ، وَعَاثُوا فِي البُقْعَةِ المُقَدَّسَةِ فَسَادًا أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِيْنَ سَنَةً، إِلَى أَنْ جَاءَ سَيُّدُنَا صَلَاحُ الدِّينِ الأَيُّوبِيُّ، فَجَاءَ الحَقُ وَزَهَقَ البَاطِلُ، وَرُفِعَ فِيهَا رَايَاتُ العِزِ وَالتَوْحِيدِ.
التعريف بفاتح بيت المقدس
هُوَ حَافِظُ كِتَابِ اللهِ، الفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، الدَّيِّنُ الوَرِعُ الزَاهِدُ العَابِدُ السُلْطَانُ الشُّجَاعُ السَّخِيُّ الجَوَادُ، صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بنُ أَيُّوبَ بنِ شَادِي الأَيُوبِيُّ الأَشْعَرِيُّ الشَّافِعِيُّ.
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسُمِائَةٍ وَاثْنَينِ وَثَلَاثِينَ لِلْهِجْرَةِ فِي قَلْعَةِ “تِكرِيتَ”، وَهِيَ مَدِينَةٌ تَقَعُ عَلَى ضِفَافِ نَهرِ دِجْلَةَ جَنُوبِيَّ بَغْدَادَ فِي العِرَاقِ.
كَانَ أَبُوهُ وَالِيًا عَلَى المَدِينَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مَعَهُ إِلَى المُوصِلِ، وَاسْتَقَرَ فِيهَا بِرِعَايَةِ عِمَادِ الدِّينِ زِنْكِي، فَلَمَّا مَاتَ نُورُ الدِّينِ زِنْكِي رَحِمَهُ اللهُ اسْتَقَلّ صَلَاحُ الدِّينِ بِحُكْمِ مِصْرَ والشَّامِ وَغَيْرِهَا مِنَ البِلَادِ.
يَقُولُ عَنْهُ مُعَاصِرُوهُ: كَانَ خَاشِعَ القَلْبِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ، إِذَا سَمِعَ القُرْءَانَ خَشَعَ قَلْبُهُ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّعْظِيمِ لِشَعَائِرِ الِإسْلَامِ.
اللبنة الأولى في فتح بيت المقدس
اهْتَمَّ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ الأَيُّوبِيُّ بِبِنَاءِ البَشَرِ قَبْلَ بِنَاءِ الحَجَرِ، فَأَقَامَ العَدْلَ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَسَلَكَ بِهِمْ مَسْلَكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي المُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ وَالتَمَسُّكِ بِالعَقِيدَةِ الصَّافِيَةِ النَقِيَّةِ، عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَةِ وَالجَمَاعَةِ الأَشَاعِرَةِ وَالمَاتُرِيدِيَّةِ، فَقَدْ أَمَرَ رَضِيَ اللهَ عَنْهُ بِتَدْرِيسِ العَقِيدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، التِي فِيهَا تَنْزِيهُ اللهِ عَنِ المَكَانِ وَالحَيِّزِ وَاللونِ وَسِوَاهَا مِنْ صِفَاتِ المَخْلُوقِينَ، فِي الكَتَاتِيبِ وَالمَدَارِسِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، فَقَدْ أَلَّفَ الإِمَامُ ابنُ البَرْمَكِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رِسَالَةً فِي بَيَانِ العَقِيدَةِ، فَأُعْجِبَ بِهَا السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ، وَأَمَرَ بِذَيْعِهَا عَلَى المَنَابِرِ فِي المَسَاجِدِ كُلَّ لَيْلَةٍ، حَتَّى يَسْمَعَهَا الكِبَارُ وَالصِّغَارُ، لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَمَا كَانَ عَلَيهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذِهِ العَقِيدَةِ:
وَصَانِعُ العَالَمِ لاَ يَحْوِيهِ
قُطْرٌ تَعَالَى الله عَنْ تَشْبِيهِ
قَدْ كَان مَوْجُوداً وَلاَ مَكَانَا
وَحُكْمُهُ الآنَ عَلَى مَا كَانَا
سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنِ المَكَانِ
وَعَزَّ عَنْ تَغَيُّرِ الزَّمَانِ
وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا:
وَصَانِعُ العَالَمِ فَرْدٌ وَاحِدُ
لَيسَ لَهُ فِي خَلقِهِ مُسَاعِدُ
جَلَّ عَنِ الشَّرِيكِ وَالأَولَادِ
وَعَزَّ عَن نَقِيصَةِ الأَندَادِ
التمهيد لفتح بيت المقدس
قَبلَ استِردَادِ بَيتِ المَقدِسِ وَطَردِ الإِفرِنجِ مِن بِلَادِ المُسلِمِينَ وَالمَسجِدِ الأَقصَى، كَانَ لَا بُدَّ مِن تَوحِيدِ البِلَادِ الإِسلَامِيَّةِ فِي المِنطَقَةِ قَبلَ ذَلِكَ، لِتَحصُلَ القُوَّةُ الكَافِيَةُ لِتَدمِيرِ الإِفرِنجِ وَاستِردَادِ بَيتِ المَقدِسِ، فَشَمَّرَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ سَاعِدِهِ لِتَوْحِيدِ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَجَهَّزَ الجُيُوشَ لِقِتَالِ الإِفْرَنْجِ وَانْتِزَاعِ مَا بَقِيَ مِنْ أَرَاضِي الشَّامِ، كَمَا جَهَّزَ جَيشًا لِاسْتِرْدَادِ اليَمَنِ وَبَعَثَهُ إِلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسِهِ أَخُوهُ تُورَان شَاه بنُ أَيُوبَ، حَيْثُ وَجَدَ صَلَاحَ الدِّينِ أَنَّ ضَمَّ بِلَادِ اليَمَنِ إِلَى مُلْكِهِ سَيَجْعَلُ المُسْلِمِينَ يُحْكُمُونَ السَّيطَرَةَ عَلَى مَنَافِذِ البَحْرِ الأَحْمَرِ لِحِمَايَةِ الأَرَاضِي المُقَدَسَةِ فِي الحِجَازِ، خُصُوصًا بَعْدَ اِسْتِعَادَةِ مِنْطَقَةِ العَقَبَةِ الوَاقِعَةِ عَلَى البَحْرِ الأَحْمَرِ، كَمَا وَأَنَّ عَدَنَ أَصْبَحَتْ مَرْكَزًا مُهِمًا لِلْتِجَارَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، فَالمَطْلُوبُ حِمَايَتُهَا مِنْ هَجَمَاتِ الِإفْرَنْجِ الذِينَ قَدْ يُفَكِرُونَ بِالاتَصَالِ بَأَنْصَارِهِمْ فِي بِلَادِ الحَبَشَةِ، فَكَانَ مِنَ المُهِمِّ تَحْصِينُ المَنْفَذِ الجَنُوبِيِّ لِلْبَحْرِ الأَحْمَرِ، وَهَكَذَا بَعْدَ أَنْ جَهَّزَ صَلَاحُ الدِّينِ الجَيْشَ، عَبَرَ أَخُوهُ بِالجُيُوشِ الِإسْلَامِيَّةِ البَحْرَ إِلَى جُدَةَ، وَمِنْهَا إِلَى مَكْةَ، حَيْثُ دَخَلَهَا مُعْتَمِرًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى “زَبِيدَ” وَتَمَّتِ السَّيْطَرَةُ عَلَيْهَا، وَتَمَّ أَسْرُ حَاكِمِ “عَدَن”، كَمَا أَنَّ السُّلْطَانَ صَلَاحُ الدِّينِ بَعَثَ حَمْلَةً إِلَى غَرْبِيِّ مِصْرَ بِقِيَادَةِ “قَرَاقُوشَ”، فَاسْتَولَى عَلَى بَرْقَةَ وَطَرَابُلْسَ الغَرْبِ وَتُونُسَ، وَهَكَذَا تَمَّ تَوْحِيدُ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ فِي جَبْهَةٍ وَاحِدَةٍ، تَمْتَدُّ مِنْ بَرْقَةَ وَتُونُسَ غَرْبًا إِلَى الفُرَاتِ شَرْقًا، وَمِنَ المُوْصِلِ وَحَلَبَ شَمَالاً إلَى النَّوْبَةِ وَاليَمَنِ جَنُوبًا، وَبَقِيَ لَدَى صَلَاحُ الدِّينِ هَمٌّ كَبِيرٌ، وَهُوَ تَحْرِيرُ الأَقْصَى مِنَ العَدُوِّ الجَاثِمِ فِي فِلَسْطِينَ.
معركة حطين
تُعْتَبَرُ وَقْعَةُ حِطِّينَ أَمَارَةً وَمُقَدِمَةً وَبِشَارَةً لِفَتْحِ بَيْتِ المَقْدِسِ عَلَى أَيْدِي المُؤمِنِينَ، وَاستِنْقَاذِهِ مِن أَيْدِي الكَافِرِينَ، فَإِثْر النَّصْرِ الكَبِيرِ فِيهَا اِنْهَارَتِ الدَّوْلَةُ المُسَمَّاةُ “أُورْشَلِيم”، وَتَمَكَّنَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ مِنَ اِسْتِرْجَاعِ جَمِيعِ مُدُنِهَا وَقِلَاعِهَا، وَبَدَأَتِ المُدُنُ تَسْقُطُ بِأَيدِي المُسْلِمِينَ الوَاحِدَةِ تِلْوَ الأُخْرَى، لاسِيَّمَا عَكَّا وَيَافَا وَحَيْفَا وَصَيْدَا وَبَيْرُوت وَجُبَيل، يَقُولُ الحَافِظُ ابنُ الأَثِيرِ المُعَاصِرُ لِتِلْكَ المَوْقِعَةِ فِي تَارِيخِهِ: كُلُّ مَنْ يَرَى القَتْلَى يَحْسَبُ أَنْ لَيْسَ هُنَاكَ أَسْرَى، وَكُلُّ مَنْ يَرَى الأَسْرَى يَحْسَبُ أَنْ لَيْسَ هُنُاكَ قَتْلَى، وَقَالَ ءاخَرٌ: كَانَ الفَارِسُ مِنَ المُسْلِمِينَ يَقُودُ ثَلَاثِينَ أَو أَرْبَعِينَ أَسِيرًا فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ المِائَتَانِ مِنَ الإِفْرَنْجِ الأَسْرَى يَحْرُسُهُمْ فَارِسٌ وَاحِدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وقُدِّر عَدَدُ الأَسْرَى بِثَلَاثِينَ أَلْفِ أَسِيرٍ، مِمَّا أَثَّرَ فِي كَسَادِ أَثْمَانِهِمْ فِي السُّوقِ لَدَى عَرْضِهِم لِلْبَيعِ، وَوَصَلَ الأَمْرُ أَنْ يُبَاعَ مِنْهُمْ أَسِيرٌ بِنَعْلٍ.
فتح بيت المقدس
بَعْدَ حِطِّينَ تَرَكَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ جُيُوشَهُ تَرْتَعُ فِي الفُتُوحَاتِ والغَنَائِمِ الكَثِيرَةِ التِي تَحَقَّقَتْ لَهُ مُدَّة شُهُورٍ، لِيَسْتَرِيحُوا وَيَجْمَعُوا أَنْفُسَهُم وَخُيُولَهُم، لَيَتَأَهَّبُوا لِفَتْحِ بَيْتِ المَقْدِسِ الشَّرِيفِ، وَطَارَ فِي النَّاسِ أَنَّ السُّلْطَانَ عَزَمَ عَلَى فَتْحِ بَيتِ المَقْدِسِ، فَقَصَدَهُ العُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالمُتَطَوِّعَةُ مِنْ كُلِّ فَجٍ عَمِيقٍ، فَاجْتَمَعَ مِنْ عِبَادِ اللهِ وَمِنَ الجُيُوشِ المُتَطَوِّعَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌ غَفِيرٌ.
وَبَدَأَ سَيرَهُ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ الشَّرِيفِ يَوْمَ الأَحَدِ، فِي الخَامِسَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَنَزَلَ غَرْبِيَّ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَقَدْ حَصَّنَتِ الفِرَنْجُ الأَسْوارَ بِالمُقَاتِلَةِ، وَكَانُوا سِتِّينَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ صَاحِبُ القُدْسِ أَيِ المُدَبِّرُ لِشُؤُونِهَا يَوْمَئِذٍ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: بَاليَان بنُ بَازرَان.
فَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِمَكَانِهِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَسَلَّمَ إِلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِن جَيْشِهِ المَنْصُورِ نَاحِيَةً مِن أَبْرِجَةِ السُّورِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ، لَأَنَّهُ رَآهَا أَوْسَعَ وَأَنْسَبَ لِلْمَجَالِ وَالجِلَادِ وَالنِّزَالِ، وَقَاتَلَ الفِرَنْجُ دُونَ البَلَدِ قِتَالًا هَائِلًا، وَاسْتَشْهَدَ بَعْضُ أُمَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَحَنَقَ عِنْدَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الإِسْلَامِ، وَاجْتَهَدُوا فِي القِتَالِ بِكُلِّ خَطِّيٍّ وَحُسَامٍ، وَقَدْ نُصِبَتِ المَجَانِيقُ، وَالعُيونُ تَنْظُرُ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى قِبْلَةَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي زَمَنٍ مِنَ الأَزْمَانِ، فَزَادَ ذَلِكَ أَهْلَ الإِيمَانِ مِنَ الحِنقَ الكَثِيرَ وَشِدَةَ التَّشْمِيرِ، فَكَانَ يَومًا عَسِيرًا عَلَى الكَافِرِينَ، فَبَادَرَ السُّلْطَانُ أَيَّدَهُ اللهُ بِأَصْحَابِهِ إِلَى الزَّاوِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنَ السُّورِ، فَنَقَبَهَا وَعَلَّقَهَا وَحَشَاهَا بِالنِّيرَانِ وَأَحْرَقَهَا، فَسَقَطَ ذَلِكَ الجَانِبُ، وَخَرَّ البُرْجُ بِرُمَّتِهِ، فَلَمَّا شَاهَدَ الفِرَنْجُ ذَلِكَ الحَادِثَ، وَالخَطْبَ المُؤلِمَ المُوْجِعَ لَهُمْ، قَصَدَ أَكَابِرَهُمْ السُّلْطَانَ وَتَشَفَّعُوا إِلَيهِ بِكُلِ إِنْسَانٍ أَنْ يُعْطِيَهُمُ الأَمَانَ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: لَا أَفْتَحُهَا إِلَّا كَمَا افْتَتَحْتُمُوهَا عُنْوَةً، وَلَا أَتْرُكُ بِهَا أَحَدًا مِنَ النَّصَارَى إِلَّا قَتَلْتُهُ كَمَا قَتَلْتُمْ أَنْتُمْ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ المُسْلِمِينَ، فَطَلَبَ صَاحِبُهَا باليان بن بازران مِنَ السُّلْطَانِ الأَمَانَ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ، فَأَمَّنَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ تَرَقَّقَ لَهُ، وَتَشَفَّعَ إِلَيهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى الأَمَانِ لَهُمْ، فَقَالُوا: لِئِنْ لَمْ تُعْطِنَا الأَمَانَ رَجَعْنَا فَقَتَلْنَا كُلَّ أَسِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ بَأَيدِينَا، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَقَتَلْنَا ذَرَارِينَا، وَخَرَّبْنَا الدُورَ وَالأَمَاكِنَ الحَسَنَةَ، وَأَتْلَفْنَا مَا بِأَيْدِينَا مِنَ الأَمْوَالِ، وَأَلْقَيْنَا قُبَّةَ الصَّخْرَةِ، وَنُتْلِفُ مَا نَقْدِرُ عَلَيهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ نُقَاتِلُ قِتَالَ المَوتِ، فَلَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنَّا حَتَّى يَقْتُلَ أَعْدَادًا مِنْكُمْ، فَمَاذَا تَرْتَجِي بَعْدَ هَذَا مِنَ الخَيرِ؟.
فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ ذَلِكَ أَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يَبْذُلَ كُلُ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَعَنِ المَرْأَةِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، وَعَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَصَغِيرَةٍ دِيَنَارَينِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَسِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ تَكُونَ الغَلَّاتُ والأَسْلِحَةُ وَالدُورُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَتَحَوَّلُوا مِنْهَا إِلَى مَأْمَنِهِمْ، وَهِيَ مَدِينَةُ صُور، فَكُتِبَ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ لَا يَبْذِلُ مَا شُرِطَ عَلَيهِ إِلَى أَرْبَعِينَ يَومًا فَهُوَ أَسِيرٌ، فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ أُسِرَ بِهَذَا الشَّرْطِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ إِنْسَانٍ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَوِلْدَانٍ.
وَدَخَلَ السُّلْطَانُ وَالمُسْلِمُونَ البَلَدَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، قُبَيلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِقَلِيلٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّابِعِ وَالعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، قَالَ العِمَادُ الكَاتِبُ: وَهِيَ لَيْلَةُ الإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى إِلَى السَّمَاوَاتِ العُلَا.
ثُمَّ نُظِّفَ المَسْجِدُ الأَقْصَى يَوْمَئِذٍ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الصُّلْبَانِ وَالرُّهْبَانِ وَالخَنَازِيرِ، وَكَانُوا قَدِ اتَخَذُوا المِحْرَابَ مَحَلًا لِلْخَنَازِيرِ، فَنُظِّفَ المَسْجِدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأُعِيدَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيهِ فِي الأَيَّامِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالدَّوْلَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، وَغُسِّلَتِ الصَّخْرَةُ بِالمَاءِ الطَّاهِرِ، وَأُعِيدَ غَسْلُهَا بِمَاءِ الوَرْدِ الفَاخِرِ، وَأُبْرِزَتْ لِلْنَاظِرِينَ، وَعَادَتْ إِلَى حُرْمَتِهَا.
وَأَمَّا أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْقُدْسِ، فَقَد أَطْلَقَهُمُ السُّلْطَانُ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ إِعْطَاءَاتٍ هَنِيَّةً، وَكَسَاهُمْ حُلَلًا سَنِيَّةً، وَانْطَلَقَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى وَطَنِهِ، وَعَادَ إِلَى أَهْلِهِ وَسَكَنِهِ.
فَلِلهِ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ وَمِنَنِهِ، نَسْأَلُ اللهَ العَظِيمَ القَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ أَنْ يُرِيَنَا الأَقْصَى الشَّرِيفَ وَكُلَّ أَرْضٍ مِنْ فِلَسْطِينَ مُحَرَّرَةً مِنَ اليَهُودِ الغَاصِبِينَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ.
خاتمة فيها بيان أهمية الدعاء
بَعدَ أَن فَتَحَ سَيِّدُنَا صَلَاحُ الدِّينِ الأَيُّوبِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بَيتَ المَقدِسِ، أَعطَى إِجَازَةً لِلجُندِ بِاستِثنَاءِ القَلِيلِ مِنهُم، فَسَمِعَ الرُّومُ بِذَلِكَ، فَعَزَمُوا عَلَى الهُجُومِ عَلَيهِ، فَبَلَغَهُ الأَمرُ، فَفَكَّرَ فِي أَنَّهُ لَو خَرَجَ لَقِيلَ هَرَبَ السُّلطَانُ فَيَتَزَعزَعُ المُسلِمُونَ، وَلَو بَقِيَ يُقالُ قُتِلَ السُّلطَانُ فَيَتَزَعزَعُ المُسلِمُونَ أَيضًا، وَكَانَ الَّذِينَ حَولَهُ عُلَمَاءَ صَالِحِينَ، فَاستَشَارَ أَحَدَهُم، فَأَخبَرَهُ العَالِمُ بِأَنَّهُ إِذَا انقَطَعَتِ الأَسبَابُ الأَرضِيَّةُ فَليَلْجَأْ إِلَى الأَسبَابِ السَّمَاوِيَّةِ، أَي إِلَى الأَسبَابِ الَّتِي تَأتِي مِنَ المَلَائِكَةِ سُكَّانِ السَّمَاءِ بِأَمرِ اللهِ تَعَالَى، وَطَلَبَ مِنَ السُّلطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ أَن يَغتَسِلَ وَيُصَلِّيَ الجُمُعَةَ عَلَى العَادَةِ بِالأَقصَى، مَسرَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَيُقدِمَ عَلَى التَّصَدُّقِ بِشَيءٍ خُفيَةً عَلَى يَدِ مَن يَثِقُ بِهِ، وَأَن يُصَلِّيَ السُّلطَانُ رَكعَتَينِ بَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ، وَيَدعُوَ اللهَ فِي سُجُودِهِ، فَقَد وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَن يَقُولَ فِي بَاطِنِهِ: إِلَهِي قَدِ انقَطَعَتْ أَسبَابِي الأَرضِيَّةُ فِي نُصرَةِ دِينِكَ، وَلَم يَبقَ إِلَّا الإِخلَادُ إِلَيكَ، وَالِاعتِصَامُ بِحَبلِكَ، وَالِاعتِمَادُ عَلَى فَضلِكِ، أَنتَ حَسبِي وَنِعمَ الوَكِيلُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَإِنَّ اللهَ أَكرَمُ مِن أَن يُخَيِّبَ قَصدَكَ، فَفَعَلَ السُّلطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ الأَيُّوبِيُّ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَأَمَرَ بِإِخرَاجِ الصَّدَقَةِ سِرًّا، وَاغتَسَلَ وَصَلَّى الرَّكعَتَينِ بَينَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ، وَدَعَا اللهَ تَعَالَى سَاجِدًا وَدُمُوعُهُ تَتَقَاطَرُ عَلَى شَيبَتِهِ ثُمَّ عَلَى سَجَّادَتِهِ، فَلَم يَلبَثُوا إِلَّا وَقتًا يَسِيرًا، حَتَّى جَاءَهُ الخَبَرُ بِأَنَّ قَادَةَ العَدُوِّ دَبَّ الخِلَافُ بَينَهُم وَاقتَتَلُوا، ثُمَّ عَادُوا إِلَى دِيَارِهِم.
فَإِذَا انقَطَعَت بِنَا الأَسبَابُ الأَرضِيَّةُ، فَلنَلجَأْ إِلَى الأَسبَابِ السَّمَاوِيَّةِ، لِنَلجَأْ إِلَى الصَّدَقَةِ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ فِي صَلَاتِنَا.
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
المصادر
هَذِهِ المَسَائِلُ مَجمُوعَةٌ وَمُلَخَّصَةٌ مِن:
- الْكَامِلِ فِي التَّارِيْخِ لِابنِ الْأَثِيْرِ
- النَّوَادِرِ السُّلْطَانِيَّةِ لِابنِ شَدَّادٍ
- الْبِدَايَةِ وَالنِّهايَةِ لِابْنِ كَثِيْرٍ